ا لسؤال الرابع: ما حكم الله ورسوله في قوم يجمعون بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء دائما وهم مقيمون ؟
الجواب: قد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله أن الواجب أن تصلى الصلوات الخمس في أوقاتها الخمسة ، وأنه لا يجوز أن يجمع بين الظهر والعصر ، ولا بين المغرب والعشاء إلا لعذر ؛ كالمرض ، والسفر ، والمطر ونحوها ، مما يشق معه المجيء إلى المسجد لكل صلاة في وقتها من الصلوات الأربع المذكورة ، وقد وقت الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم في أوقاتها الخمسة جبرائيل عليه السلام ، فصلى به في وقت كل واحدة في أوله وآخره في يومين ، ثم قال له عليه الصلاة والسلام بعد ما صلى به الظهر في وقتيها والعصر في وقتيها: الصلاة بين هذين الوقتين وهكذا لما صلى به المغرب في وقتها والعشاء في وقتها قال: الصلاة بين هذين الوقتين وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك في المدينة ، فأجاب السائل بالفعل ، فصلى الصلوات الخمس في اليوم الأول بعد السؤال في أول وقتها ، وصلى في اليوم الثاني الصلوات الخمس في آخر وقتها ، ثم قال: الصلاة بين هذين الوقتين
وأما ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة ثمانا جميعا وسبعا جميعا ، وجاء في رواية مسلم في صحيحه: أن المراد بذلك الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، وقال في روايته: من غير خوف ولا مطر ، وفي لفظ آخر: من غير خوف ولا سفر .
فالجواب: أن يقال: قد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك ، فقال: لئلا يحرج أمته.
قال أهل العلم: معنى ذلك: لئلا يوقعهم في الحرج ، وهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة ، لسبب يقتضي رفع الحرج والمشقة عن الصحابة في ذلك اليوم ؛ إما لمرض عام ، وإما لدحض ، وإما لغير ذلك من الأعذار التي يحصل بها المشقة على الصحابة ذلك اليوم .
وقال بعضهم: إنه جمع صوري ، وهو أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها وقدم العصر في أول وقتها ، وأخر المغرب إلى آخر وقتها وقدم العشاء في أول وقتها.
وقد روى ذلك النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس راوي الحديث ، وبهذه الرواية يزول الإشكال ؛ لكونه صلى كل صلاة في وقتها ، وإسناده عند النسائي صحيح ، ولم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث أن هذا العمل تكرر من النبي صلى الله عليه وسلم ، بل ظاهره أنه إنما وقع منه مرة واحدة ، قال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله ما معناه: إنه ليس في كتابه - يعني الجامع - حديث أجمع العلماء على ترك العمل به سوى هذا الحديث ، وحديث آخر في قتل شارب المسكر في الرابعة ، ومراده: أن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين إلا بعذر شرعي ، وأنهم قد أجمعوا على أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في هذا الحديث محمول على أنه وقع لعذر ؛ جمعا بينه وبين بقية الأحاديث الصحيحة الكثيرة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي كل صلاة في وقتها ولا يجمع بين الصلاتين إلا لعذر ، وهكذا خلفاؤه الراشدون وأصحابه جميعا - رضي الله عنهم - والعلماء بعدهم ، ساروا على هذا السبيل ومنعوا من الجمع إلا من عذر ، سوى جماعة نقل عنهم صاحب النيل جواز الجمع إذا لم يتخذ خلقا ولا عادة ، وهو قول مردود ؛ للأدلة السابقة وبإجماع من قبلهم .
وبهذا يعلم السائل أن هذا الحديث ليس فيه ما يخالف الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم الجمع بين الصلاتين بدون عذر شرعي ، بل هو محمول على ما يوافقها ولا يخالفها ؛ لأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية يصدق بعضها بعضا ، ويفسر بعضها بعضا ، ويحمل مطلقها على مقيدها ، ويخص عامها بخاصها.
وهكذا كتاب الله المبين يصدق بعضه بعضا ويفسر بعضه بعضا ، قال سبحانه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] ، وقال عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ الآية [الزمر: 23] ، والمعنى: أنه مع إحكامه وتفصيله يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا ، وهكذا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم سواء بسواء. والله ولي التوفيق.