في طريقي إلى مكة المكرمة ، راودتني أفكار كثيرة،وخالجت روحي مشاعر جمة، اخذني الشوق إليها، وعصفت بي رغبة اللقاء وزاد ني طول الدرب اليها لهفة وحبا·
قد نسج الليل على جنبات الطريق نوعا من الوقار والسكينة ، فلم اشعر أبدا بغربة ملامحه وكأني اعتدت المسير عليه دائما، حلمت بالوصول دائما اليك ، ودائما ما داعبت صورة مجيئي إليك سحب خيالي ،وولدت تلك المداعبات رغبة ما استطعت أسرها ولا ترويض إلحاحها على نفسي ، فتركت للأيام والأقدار أن تسوق بشرى زيارتها ، كانت دائما بقربي وفي قلبي واليوم أصبحت تنازع صميم الفؤاد سكونه واستكانته فطفق يهفو في كل لحظة لرؤيتها ولدعاء فيها والى أن يتمرغ بعبق مسكها ، وان يغتسل بماء زمزم الذي تفجر تحت أقدام هاجر منذ أزمان بعيدة جدا ، وما زال يتدفق ،ويطفىء ظمأ العطشى والمتلهفين لزيارة وحج بيت الله الحرام·
كل تلك المشاعر قد يصطفيها القلب لنفسه دون الآخرين ، ويتمرغ في نعيمها ،ويستلذ بطيبها ويحلو له المقام فيها ساعات وساعات ·وما يكل من مصاحبتها·
شدني وأنا في مكة صوت النشيد الإسلامي الذي كان يطرب مسمعي أثناء إقامتي في فندق قريب من الحرم، وكنت أجد متعة في الاستماع إليه، وكلما أطلت عيناي من نافذة الغرفة أجد بشرا يسيرون آتون وذاهبون ، فذلك الشارع الممتد إلى بوابة الملك عبد العزيز إحدى بوابات الحرم لا يكاد يهدأ ليلا او نهارا وكأنه لسان من اليابس يمتد في بحر لجي يغص بالسابحين فيه ، وفي كل فرض يقام تجد أن الناس قد اصطفوا فيه وقت الزحام الشديد، وقد فرشوا سجادات الصلاة وبدأوا يصلون حين يصلهم صوت المآذن بإقامة الصلاة ،رجال ونساء شيوخ وشباب عرب وعجم، بيض وسود كلهم سواء يصلون لواحد احد ،ويذكرون كلمة لا إله إلا الله الواحد الصمد، سبحان الله كل هؤلاء البشر الآلاف بل الملايين على اختلاف ألسنتهم وألونهم يقولون بصوت واحد الله اكبر·
تشعر وأنت تعيش في الحرم وبقربه بإن الأيام مجرد لحظات سريعة وتنقضي ،وان حلاوتها تظل معك إلى الأبد ،وان صوت أئمة الحرم دائما ما يرافقك ويشعرك بالحنين والاشتياق الدائم لتلك الأراضي المقدسة، وان اللحظات الإيمانية تكسب حياتك نكهة خاصة تجعل مذاق حلاوتها أروع وأجمل·
بالأمس القريب كنت هناك ،واليوم أصبح كل شيء حدث هناك قصة تسردها الكلمات على اسطر من فضة وعبارات من ذهب، تشتاق لقراءتها في كل حين ،وتتلذذ بالإنصات إليها حين تتلى عليك ، وها هو خيالي يتلوها دائما علي فأجد نفسي تتلهف إلى مصاحبة أحداثها لحظة بلحظة ،والى الاستمتاع بكل الذكريات التي عشتها هناك في أيام الحج المباركة·
لم أكن أتوقع أن الليالي التي قضيناها في منى ستكون ليالي قصيرة وتنقضي ونرحل عنها كما لو كانت بين إغفاءة عين وإفاقة فما هي إلا لحظة ويخطفها الزمن من بين يدك فتتلاشي ولكن تظل الذكري عالقة في القلب،من منى كانت نقطة البداية ( يوم التروية )، وإليها كانت العودة مرات ومرات، فما ألذ لياليها وما أروع صحبتها ، تحس وأنت هناك براحة نفسية تحس بالأمان تحس بطيب الإقامة بحلاوة الجلسات الليلية·
ومنها أيضا كان الانطلاق إلى عرفة وعشنا هناك يوما من البساطة كان حافلا بالدعاء وبقراءة القرآن ،والكل يشعر بحماس الإيمان ويدعو بخشوع القلب ويقرأ بلذة القراءة، وفي اللحظات الأخيرة من ذلك اليوم·وقفنا على ناصية الجبل وفي قلوبنا أدعية كثيرة وحسرة على وداع ذلك اليوم الذي أسرنا بروعته، وطبعا هناك أحداث عديدة يعجز القلم عن سرد تفاصيلها ، ولكني أجمل كل ما حدث في عبارة واحدة وهي أن من ذاق حلاوة الحج يتمني أن يذوقها في كل عام·
همسة :
تحية من القلب لكل من عرفته هناك وأحببته وعاش في ثنايا الروح، وظلت ذكراه في نفسي لا تغادرها أبدا، لهم تحية ود وباقة حب واحترام أهديها لهم·
وضحة النيادي -العين
العرض العادي
