وجوه وأقنعة
المصدر: علي عبيد
التاريخ: 13 أغسطس 2012
هو واحد من تلك الوجوه التي يمكن أن تقابلها في كل مكان وفي أي زمان.
ورغم الانطباع غير المريح الذي قد يتركه لديك، إلا أنك لا تستطيع أن تمحوه تماما من ذاكرتك، إذ ربما ظل عالقا بها حتى يأتي وجه آخر قد يدفعه إلى الوراء قليلا، لكنه لا يخفيه تماما.
ينتشر عادة بين شاغلي الوظائف من مختلف الدرجات، ولا يملك في الغالب القدرة على المغامرة أو المخاطرة بدخول مجالات غير مضمونة الربح معدومة الخسارة.
تبرز مواهبه في أوقات التحولات الكبرى في مواقع المسؤولية، تلك التي تشهد ذهاب مسؤول ومجيء مسؤول آخر ليحل محله. ملامحه غير محددة، وإن كانت لا توحي بشيء غالبا، فتلك واحدة من الصفات التي يتميز بها وتمنحه القدرة على التلون وتقمص أدوار مختلفة، حسب مقتضى الحال وما سيكون إليه المآل.
في مواكب الفرح تجده ضارب دفٍّ ماهراً وراقصا بارعا، ترتسم على وجهه علامات السرور، وتجلجل ضحكته في المكان مشيعة البهجة في كل الأركان. وفي مواسم الحزن تجده مكتئبا يحمل هموم الدنيا على كتفيه، تضيق به الأرض بما رحبت، ويخيم الوجوم على كل عضلة من وجهه، وتسقط دموعه سخية إذا اقتضى الأمر ذلك.
يملك مقدرة فائقة على معرفة اتجاهات الريح، لذلك فهو يرفع أشرعة سفينته في الوقت المناسب كي تدفعها الرياح إلى حيث يريد، فإذا اشتدت الريح طوى تلك الأشرعة كي لا تتمزق، وإذا سكنت مضى مجدفا كي لا تتوقف سفينته في عرض البحر، فهو في حركة مستمرة، تتفاوت قوة الدفع فيها حسب مقتضى الحال، لكنها لا تتوقف.
هو قارئ جيد لخريطة الأحداث، يتفوق على العرافين وقارئي الكفوف والفناجين. تنبؤاته مشهود لها بالدقة، قد يتأخر وقوعها قليلا لكنها لا تخطئ أبدا. دارس جيد لعلم الفلك والأبراج ومواقع النجوم، يعرف متى يصعد نجم المسؤول ومتى يهوي، يملك تلسكوبا داخليا فائق الدقة، يرصد من خلاله حركة النجوم والأجرام السماوية ويعرف مداراتها.
حدود مصالحه مفتوحة، رسمتها مواثيق سرية صاغها بنفسه لنفسه وأخفاها عن بني جنسه، تقوم على حراستها حواس غير متناهية العدد، يتمتع بها وحده على خلاف بقية البشر الذين لا يملكون أكثر من خمس، يضعف بعضها أو يتعطل بفعل الزمن، بينما تزداد حواس صاحبنا قوة وتتقد بمرور الأيام وكرّ الأعوام.
هو وجه مألوف في كل المجالس، وعلى كل المنصات، وفي جميع القاعات، لا تفوته مناسبة، حتى تحسب أن له ألف شبيه لكثرة ما تراه، فأصول اللعبة تقتضي أن يظهر في كل المواقع والأوقات، وأن يحضر في كل المناسبات، وأن يظهر في الوقت المناسب أمام الكاميرات ليحجز لوجهه مكانا في كل اللقطات.
إذا فُتِح حوار بادر إلى الإدلاء برأيه، ولو لم يطلب منه أحد ذلك. ليس مهما أن يكون على دراية كافية بالموضوع، أو أن يمسك بخيط رفيع منه، أو أن يكون خاوي الفكر جاهلا به، فالمهم هو أن يُسمِع الحضور صوته، وأن يبدو للناس مطلعا على كل الأمور. له في كل ميدان صولة، وله في كل ساحة جولة، لا همّ له سوى أن يشعر بوجوده كل من حوله.
مبدؤه في الحياة الإمساك بالعصا من منتصفها، فلم يُعرَف عنه أبدا أنه صاحب رأي مستقل أو موقف ثابت أو اتجاه محدد.
قد يأخذه الحماس أحيانا ليجامل كبيرا فيؤيد وجهة نظره ويدافع عن أفكاره، لكنه لم يثبت يوما على مبدأ أو يتخذ موقفا يحسب عليه فلا يستطيع التراجع عنه.
المصلحة عنده هي المبدأ، وكل ما عداها وسائل لتحقيقها، وجني أقصى ما يمكن جنيه من مكاسب، فالغاية لديه تبرر الوسيلة، حتى لو كان الوصول إليها بالحيلة.
صاحبنا خبير في العلاقات العامة، يحتفظ دائما بكل الأرقام المهمة التي توجهه بوصلة مصالحه نحو الاتصال بها، وفق جدول زمني يتفق مع مكانة صاحب الرقم ومقدار أهميته لديه، والدرجة التي يمثلها في سلم الارتقاء إلى الغاية المرجوة من علاقته به.
لذلك فهو صاحب ذاكرة متقدة عند اللزوم، لكنها سيئة إذا انحسرت الأضواء عن صاحب الرقم فعاد إلى الظل، مغادرا الكرسي إلى زاوية من زوايا النسيان، أو حل عليه غضب السلطان، ولم تعد لصاحبنا عنده مصلحة تُنجَز أو حاجة تُقضَى.
هو علة من العلل التي اجتهد العلماء والفلاسفة والمصلحون وأصحاب الرسالات السماوية في اجتثاثها وتنقية المجتمعات الإنسانية منها، وطفقوا ينشرون مبادئهم كي يخلصوا البشرية من شرورها، حتى ذهب منهم من ذهب وأتى من أتى، أما هذه الفئة فبقيت تبدل أقنعتها وتغير جلودها من حين إلى آخر، واستطاعت بما تتمتع به من مواهب، أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وأن تخدع بعض الناس كل الوقت، لكنها حتما لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت. تلك هي الحقيقة الوحيدة التي غابت عنها ولم تستطع إدراكها، رغم كل ما تتمتع به من قدرة على تحقيق غاياتها.
إنها كتلة من الفقاعات تطفو على سطح المجتمعات فتعكر صفوها، لكنها سرعان ما تذهب وتتلاشى، لأنها زَبَدٌ مما يحتمل السيل. والزبد كما هو ثابت ومعروف يذهب جُفاءً، أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
هكذا ضربت السماء الأمثال للناس وهي تصوغ لهم قوانين الأرض وتضع لهم نواميس الكون، وهكذا أثبتت الأيام للذين ينظرون ويتفكرون، والذين يتعظون مما يرون ويسمعون.
Cant See Links
العرض العادي
