فتارة فقر و تارة غنى ، و تارة عز ، و تارة ذل ، و تارة يفرح الخوالي ، و تارة يشمت الأعادي
فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال ، و هو تقوى الله عز وجل فإنه إن استغنى زانته ، و إن إفتقر فتحت له أبواب الصبر ، و إن عوفي تمت النعمة عليه ، و إن إبتلى حملته ، و لا يضره إن نزل به الزمان أو صعد ، أو أعراه أو أشبعه أو أجاعه
لأن جميع تلك الأشياء تزول و تتغير . و التقوى أصل السلامة حارس لا ينام ، يأخذ باليد عند العثرة و يواقف على الحدود
و المنكر من غرته لذة حصلت مع عدم التقوى فإنها ستحول و تخلية خاسراً
و لازم التقوى في كل حال فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة ، و في المرض إلا العافية . هذا نقدها العاجل . و الآجل معلوم
فصل : جاهد هواك
تأملت أمراً عجيباً ، و أصلاً ظريفاً ، و هو انهيال الابتلاء على المؤمن ، و عرض صورة اللذات عليه مع قدرته على نيلها . و خصوصاً ما كان في غير كلفة من تحصيله كمحبوب موافق في خلوة حصينة .
فقلت : سبحان الله ، ههنا يبين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين .
و الله ما صعد يوسف عليه السلام و لا سعد إلا في مثل ذلك المقام ، فبالله عليكم يا إخواني ، تأملوا حاله لو كان وافق هواه ، من كان يكون ؟
و قيسوا بين تلك الحالة ، و حالة آدم عليه السلام ، ثم زنوا بميزان العقل عقبي تلك الخطيئة ، و ثمرة هذا الصبر ، و اجعلوا فهم الحال عدة لكم عند كل مشتهى .
و إن اللذات لتعرض على المؤمن ، فمتى لقيها في صف حربه و قد تأخر عنه عسكر التدبر للعواقب هزم .
و كأني أرى الواقع في بعض أشراكها ، و لسان الحال يقول له : قف مكانك ، أنت و ما إخترت لنفسك .
فغاية أمره الندم و البكاء .
فإن أمن إخراجه من تلك الهوة لم يخرج إلا مدهوناً بالخدوش .
و كم من شخص زلت قدمه ، فما ارتفعت بعدها .
و من تأمل ذل إخوة يوسف عليهم السلام يوم قالوا : و تصدق علينا عرف شؤم الزلل .
و من تدبر أحوالهم قاس ما بينهم و بين أخيهم من الفروق . و إن كانت توبتهم قبلت ، لآنه ليس من رقع و خاط ، كمن ثوبه صحيح .
و رب عظم هيض لم ينجبر ، فإن جبر فعلى و هي .
فتيقظوا إخواني لعرض المشتبهات على النفوس ، و استوثقوا من لجم الخيل ، و انتبهوا للغيم إذا تراكم بالصعود إلى تلعة .
فربما مد الوادي فراح بالركب .
فصل : سر إجابة الدعاء
تأملت حالة عجيبة ، و هي : أن المؤمن تنزل به النازلة فيدعو ، و يبالغ ، فلا يرى أثراً للاجابة .
فإذا قارب اليأس نظر حينئذ إلى قلبه ، فإن كان راضياً بالأقدار ، غير قنوط من فضل الله عز وجل ، فالغالب تعجيل الإجابة حينئذ ، لأن هناك يصلح . الإيمان و يهزم الشيطان ، و هناك تبين مقادير الرجال .
و قد أشير إلى هذا في قوله تعالى : حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه : متى نصر الله .
و كذلك جرى ليعقوب عليه السلام فإنه لما فقد ولداً ، و طال الأمر عليه ، لم ييأس من الفرج ، فأخذ ولده الآخر ، و لم ينقطع أمله من فضل ربه أن يأتيني بهم جميعاً .
و كذلك قال زكريا عليه السلام و لم أكن بدعائك رب شقيا .
فإياك أن تستطيل مدة الإجابة ، و كن ناظراً إلى أنه المالك ، و إلى أنه الحكيم في التدبير ، و العالم بالمصالح ، و إلى أنه يريد اختبارك ليبلو أسرارك ، و إلى أنه يريد أن يرى تضرعك ، و إلى أنه يريد أن يأجرك بصبرك ، إلى غير ذلك . و إلى أنه يبتليك بالتأخير لتجارب وسوسة إبليس .
و كل واحدة من هذه الأشياء تقوي الظن في فضله ، و توجب الشكر له ، إذ أهلك بالبلاء للالتفاف إلى سؤاله ، و فقر المضطر إلى اللجأ إليه غنى كله .
فصل : الغريزة
لما كان بدن الآدمي لا يقوم إلا باجتلاب المصالح ودفع المؤذي،ركب فيه الهوى،ليكون سبباً لجلب النافع.
و الغضب ليكون سبباً لدفع المؤذي .
و لولا الهوى في المطعم ، ما تناول الطعام ، فلم يقم بدنه ، فجعل له إليه ميل و توق .
فإذا حصل له قدر ما يقيم بدنه زال التوق ، و كذلك في المشرب و الملبس و المنكح .
و فائدة المنكح من وجهين : أحدهما : إبقاء الجنس ، و هو معظم المقصود . و الثاني : دفع الفضلة المحتقنة المؤذي احتقانها .
و لولا تركيب الهوى المائل بصاحبه إلى النكاح ما طلبه أحد ، فمات النسل و آذى المحتقن .
فأما العارفون فإنهم فهموا المقصود ، و أما الجاهلون فإنهم مالوا مع الشهوة ، و الهوى ، و لم يفهموا مقصود وضعها ، فضاع زمانهم فيما لا طائل فيه،وفاتهم ما خلقوا لأجله، و أخرجهم هواهم إلى فساد المال ، و ذهاب العرض و الدين ، ثم أداهم إلى التلف
و كم قد رأينا من متنعم يبالغ في شراء الجواري ، ليحرك طبعه بالمتجسد ، فما كان أسرع من أن وهنت قواه الأصلية فتعجل تلفه
و كذلك رأينا من زاد غضبه فخرج عن الحد ففتك بنفسه و بمن يحبه
فمن علم أن هذه الأشياء إنما خلقت إعانة للبدن على قطع مراحل الدنيا ، ولم تخلق لنفس الألتذاذ ، و إنما جعلت اللذة فيها كالحيلة في إيصال النفع بها إذ لو كان المقصود التنعم بها لما جعلت الحيوانات البهيمة أو في حظاً من الآدمي منها
. فطوبى لمن فهم حقائق الوضع ، و لم يمل له الهوى عن فهم حكم المخلوقات
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
((شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة عبد أذهب آخرته بدنيا ))
رواه ابن ماجة عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
توبوا وانيبوا يامن استعبدتهم الشياطين وظل سعيهم في الدنيا هباء
وتأمل معي ايه القارئ هذه الأبيات :
شقي من بغير الله هامــــــــــا
وضيع عمره عاما فــــعاما
يفر من الهوى لكن إليـــــــــه
فلم يزدد به إلا انــــــهزاما
عنيد صاحبي رضع الغرامـا
على خطأ وقد كره الفطاما
تردى من سكينته اختيــــــارا
وقد جعل الجنون لهُ سنامـا
فمن فرح بلقياها قصــــــــــير
إلى ترحٍ ينافسه الخصامــا
ومن نغم به غزلٌ رقيـــــــــقٌ
إلى شجن يطيل به الظلاما