الجمعه..مكانتها..اهميتها ..حكمتها..آثارها في النفوس
الجمعه..مكانتها..اهميتها ..حكمتها..آثارها في النفوس
لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
* يعقد المسلمون في كل أسبوع لقاءً في يوم الجمعة استجابة لأمر الله عز وجل ، يستمعون فيه لخطبة ذلك اليوم العظيم ، فتتهيأ الفرصة حينذاك لإتحاف مسامعهم بما يفيدهم ويصحح معتقداتهم وأعمالهم .
* فضيلة الشيخ ، نأمل منكم الإجابة على الأسئلة التالية حول هذا الموضوع المهم ليعم نفعها على المسلمين :
1- ما مكانة وأهمية خطبة الجمعة في الإسلام وما حكمها ؟
2- ما الآثار التي يمكن أن تتركها الخطبة في نفوس المسلمين ؟
3- ما الصفات والشروط التي ينبغي توفرها في الخطبة الجيدة ؟
4- هل كان لخطبة الجمعة دور مميز في الإسلام ؟ وهل يمكن ذكر نموذجين منها ؟
5- ما العناصر التي تكون في مجموعها خطيباً ناجحاً ؟
6- كيف يجب أن يكون المأموم أو المسلم في يوم الجمعة وحال استماع الخطبة ؟
7- ما الفضل الوارد في يوم الجمعة ؟
8- هل لكم كلمة أخيرة بهذه المناسبة ؟
قال فضيلة الشيخ العلامة الإمام عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين وفقه الله لرضاه :
الحمد لله الولي الحميد الواسع المجيد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، تعالى عن الشرك ، وهو على كل شيء شهيد ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى على القريب والبعيد ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه المخلصين في التوحيد .
وبعد : فإن الله تعالى حكيم في شرعه وقضائه وقدره ، فمن ذلك ما فرض من الاجتماع العام والخاص ، ففي يوم الجمعة أمر الله تعالى بالسعي إلى ذكر الله وترك ما يشغل عن الصلاة والذكر من أمور الدنيا ، وشرع في هذا اليوم الخطب المنبرية التي يصغى إليها الجمع الكثير ويصيخون إلى ما يفيدهم به الخطيب وما يوجههم إليه ، فلذلك نقول إن خطب الجمعة من أهم وسائل الدعوة إلى الله تعالى وأبرز مناهج التعليم ، فإن الله تعالى دعاهم إليها وأمرهم بالسعي إلى ذكر الله تعالى ، أي إلى ما يذكرهم بربهم وما يستفيدون منه في حياتهم ، حيث يتلقون الوعظ والتذكير والإرشاد والدلالة على ما يصلح أحوالهم ، وما يعرفون به كيف يعبدون ربهم .
* ولقد ورد في الحديث الشريف الحث على الإنصات حال الخطبة ، والنهى عن العبث ، والكلام ، والخوض في الدنيا ، والحركة ولو قليلة ، حتى نهى عن مس الحصا وعن أمر غيرِه بإلإنصات ، وذلك ليحصل من الجميع حسن الاستماع ، وتمام الاستفادة ، فكانت هذه الخطبة من أبلغ ما يؤثر في سلوك المسلم ، ولها في الشرع أعلى مكانة وأشرف منزلة ، حيث يجب الاهتمام بالخطبة واختيار المواضيع المهمة التي تعم الحاجة إليها مع اختيار الخطيب الناصح المتمكن من معرفة أحوال الناس ، وما تمس إليه الحاجة وما يهم التنبيه عليه ، ويكون الخطيب من ذوي الكفاءة والقدرة على البلاغ والبيان ، وإيضاح المعاني وإقامة الأدلة وما يحتاج إليه المقام في جميع الحالات .
* أما الآثار بعد الخطبة فلا شك أن العاقل المؤمن المصدق بالله رباً ومعبوداً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نبياً ، متى سمع تلك الإرشادات والتعليمات والنصائح الصادقة فإنه يعتقدها ، ويصدق بمضمونها ، وتؤثر في سلوكه وسيرته ، ويكون لها الأثر البليغ في أعماله ، فيتوب من المعاصي إذا دعي إلى التوبة النصوح ، ويواظب على الطاعات متى سمع فضلها وحسن عاقبتها ، ويكثر من النوافل التي تقربه إلى رضى ربه وثوابه ، حيث رغبه الخطيب في المواظبة عليها ، ويتأثر قلبه ويتجدد إيمانه ويقوى يقينه ، وترسخ العقيدة في قلبه ، فينصرف عن تلك الصلاة وقد رق قلبه وذرفت عينه ، وخشع لربه واستكان ، وندم على ما فرط فيه في ما مضى من حياته ، ونذر نفسه لطاعة ربه ، واستبدل بمجالس الشر غيرها ، وهجر الخلطاء والزملاء الذين يصدونه عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة ، ويستبدلهم بجلساء صالحين مصلحين يذكرونه إذا نسي ويعينونه إذا ذكر ويقوّون عزيمته ، ويعمرون مجالسهم بالعلم النافع والعمل الصالح والذكر والتفكير في آيات الله تعالى ومخلوقاته .
* ولكن هذه الآثار قد تضعف أو تفقد في الكثير من المصلين إما للغفلة والسهو والنعاس حال الخطبة ، فلا يكون حاضر القلب ولا مهتماً بما يلقى على مسامعه ، فكأنه لم يحضر ، وإما لما ران على قلبه من الذنوب التي صدته عن التوبة والتأثر ، والتقبل لما يوجّه إليه من النصائح والعظات ، فتمكّن الذنوب في القلب وشدة الميل إليها بقسي القلب ، وتصعب معها التوبة ، ويستثقل فراق المأثورات والعادات التي تركزت في القلب فصار كالمستحيل الإقلاع والتخلي عن تلك الرواسب المتمكنة في القلب إلا ما شاء الله .
* ولقد نتعجب من الكثيرين الذين يتوافدون إلى المساجد في الجمعة ثم ينصرفون إلى أعمالهم ويستمرون في لهوهم وسهوهم ، ويبقون في غيهم يعمهون ، وذلك لضعف اليقين ، ولأن هذا الاجتماع أصبح أمر عادياً لا يفكر الأكثرون في الحكمة منه ، ولا يتذكرون ما سمعوه ، فتجدهم بعد الصلاة مباشرة يخوضون في شئونهم الخاصة ، ويتكلمون في عاداتهم ، وكأنهم لم يسمعوا تذكيراً ولا نصيحة تحثهم على التغير والتأثير .
* أما الصفات التي يلزم ويتأكد توفرها في الخطبة الجيدة : فإنها ترجع إلى الخطيب ومقدرته ، فمتى كان من حملة العلم الشرعي وأهل الاعتقاد السليم ، وكان واسع الاطلاع والمعرفة ومتمكناً من القدرة على استخراج المباحث والأدلة والمقالات الشيقة من بطون الكتب ، فإنه يستطيع بما معه من الملكة وقوة القريحة على أن يضمّن خطبته مواعظ شيقة تحرك القلوب ، وتهز المشاعر ، وتبعث الهمم نحو المعالي ، وتقمع النفوس الشريرة عن الأدناس ومساوي الأخلاق ، وتثير القوى النفسية نحو معالي السمات ، والتحلي بالفضائل والكرامات ، والتخلي عن كل ما يقدح في الدين أو ينافي المروءة أو يجلب السمعة السيئة .
* وهكذا نرى أن مثل هذا الخطيب يعالج مشاكل الناس وينبه على ما يقع فيه الجماهير من المصائب والمعائب ، والمعاصي المتمكنة ، كالفواحش والمخدرات والمخالفات ، والوقائع التي يحصل بها عبرة وموعظة ، ويستوفي الأدلة والتعليلات ، ويحرص على العبارة الواضحة التي تجلي المعاني ، وترسخها في الأفهام ، ولا يسهب في الكلام الذي يمله السامعون وينسي بعضه بعضاً ، وبالجملة فالخطيب الناصح يحرص على ما ينتفع به السامعون ، ويتتبع الأخبار ، ويسأل عن واقع الناس ، ويضمّن خطبته المعاني الرفيعة والعبارات الفصيحة ، ولا يتعرض لما لا أهمية له ، ولا يندد بالأفراد ، ولا يشهر الأسماء من الذين وقعوا في منكر أو مخالفة .
* وتحتوي خطبته على حمد الله تعالى والثناء عليه ، والشهادتين ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، والوصية بتقوى الله تعالى ، وقراءة ما تيسر من القرآن ، والاستشهاد بالآيات والأحاديث المناسبة ، وعلى تعليم الأحكام المهمة ، والحلال والحرام ، والعبادات التي يقع منهم فيها خلل أو جهل ، وما يحدث من المخالفات في المعاملات والعقود والجنايات ، والتحذير من كبائر الذنوب ، والدعوة إلى الله تعالى ، والاستعداد للرحيل ، وذكر الوعد والوعيد والجنة والنار ، وأهوال ما بعد الموت ونحو ذلك مما له وقع في النفوس ، وبذلك ينفع الله تعالى بهذه الخطب من أراد الله هدايته .
* ولا شك أن خطب الجمعة لها دور في التاريخ الإسلامي ، ولم تزل آثار الخطب النبوية مشهورة بين الصحابة وفيمن بعدهم ، فإن أكثر ما حفظ عنه صلى الله عليه وسلم من الفوائد والعلوم مما تلقي عنه حال الخطب المنبرية ، حتى ذكرت إحدى الصحابيات أنها حفظت من فيه سورة (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ )) حيث كان يضمنها بعض خطبه .
* وهكذا حفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه يكرر قوله : ( إن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ... إلخ ) ولم يزل أكثر الخطباء يضمون هذه الجملة في خطبهم . وكثيراً ما تنقل عنه الخطبة الطويلة أو القصيرة ، ويكون لها الأثر في السامعين ، كما في خطبته في يوم عرفه حيث وضع الربا والدماء الجاهلية ، وذكرهم بحقوق الزوجات ، وودعهم وأمرهم بالبلاغ لما سمعوه واستشهدهم على البلاغ منه ، وذكرهم بتحريم دمائهم وأموالهم وأعراضهم ونحو ذلك . وهكذا خطبة أبي بكر رضي الله عنه لما استخلف ، وهي مشهورة . واشتهر عن عمر رضي الله عنه خطبة طويلة في صحيح البخاري في ذكر حد الزنا وهو الرجم ، وكان لها أثر بليغ في السامعين .
* أما العناصر التي تكون في مجموعها خطيباً ناجحاً : فإن الخطيب يحتاج إلى إعداد حِسّي أو معنوي ؛ فإنه إما أن يطالع في الكتب ويراجع مواضيع البحث الذي يريد أن يطرقه ، أو يفكر فيه ، ويعرض في ذاكرته ما يحب أن يطرقه من الأدلة والتعليلات ، فلا يصعد المنبر إلا وقد هيأ مقالته وأعد عدته ، وقسم الخطبة إلى عناصر ، فيبدأ بحمد الله ذاكراً بعض الإشارة إلى الموضع الذي يريد أن يطرقه بما يسمى ( براعة الاستهلال ) ، وبعد الثناء على الله تعالى والشهادتين يخاطب الحاضرين بخطابات عامة مثيرة للانتباه ، فيوصيهم بتقوى الله تعالى ويبين نوعاً من أنواع التقوى وهو الذي سيتكلم عليه ، ثم يجعل له مقدمة في وجوب طاعة الله ورسوله ، ثم يذكر ثواب الطاعة وعقوبة المخالفة ، ثم يذكر الموضوع كالجهاد في سبيل الله ، فيذكر فضله وثوابه ، ويورد بعض الأدلة من الوحيين ، ثم يذكر الجهاد بالمال وأن الله تعالى يقدمه على الجهاد بالنفس ، ثم يضرب أمثلة في جهاد الصحابة وما حصل لهم من النصر والتمكين ، ويذكر أسباب ذلك من إصلاح النية وهو أن تكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر ، وكذا إصلاح العمل ، والبعد عن السيئات والمخالفات التي تكون سبباً في الخذلان وتسليط الأعداء ، وهكذا حتى يخرج الخطيب بنتيجة واضحة تؤثر في نفوس الحاضرين .
* وأما حال المأمومين يوم الجمعة : فقد ورد ما يحث المسلم على التأدب والإخبات ، فورد الأمر بالاغتسال يوم الجمعة ، وقد قيل بوجوبه ، والراجح أنه مستحب مؤكد ، والحكمة فيه احترام المصلين ، والبعد عن الأذى ، وهكذا أمر بالتبكير إلى المسجد ثم أمر أن يصلي ما كتب له من النوافل ، ثم أمر بالإنصات لسماع الخطبة وإحضار القلب ، والتأمل والتفكّر فيما يسمع من المواعظ والتوجيهات , ونهى عن العبث ، ومسح الأرض ، والكلام مع غيره ، حتى ولو بالنصيحة ، وكل ذلك حث له على الإنصات والإصاخة والاستفادة ، ليرجع بنتيجة ظاهرة وفائدة كبيرة ، يبقى أثرها معه طوال حياته .
* وأما فضل يوم الجمعة ، فورد في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : ( من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه ... إلى آخره ) وورد حديث : ( إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على أبواب المسجد يكتبون الأول فالأول ، ومثل المُهجّر كالذي يهدي بدنه ، ثم كالذي يهدي بقرة ، ثم كبشاً ، ثم دجاجة ، ثم بيضة ، فإذا جلس الإمام طويت الصحف وحضروا يستمعون الذكر ) [ رواه البخاري ومسلم ] ، وعن سلمان مرفوعاً : ( لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ويدهن ويتطيب ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب الله له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام ؛ إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ) [ رواه البخاري ] ، وزاد في حديث أبي هريرة ( وفضل ثلاثة أيام ) [ رواه مسلم ] , وعن عمر بن العاص رفعه : ( من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته ، ولبس من صالح ثيابه ، ثم لم يتخطَّ رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كانت كفارة لما بينهما ) [ رواه أبو داود ] ، وعن أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من غسّل يوم الجمعة واغتسل ، وبكّر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام ولم يلغ ، واستمع - كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها ) [ رواه أهل السنن ] ، وعن علي رضي الله عنه قال : ( إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق ، فيرمون الناس بالربائث [ جمع ربيثة ، وهي ما يعوق الإنسان عن الوجه الذي يقصد التوجه إليه ] ، ويبطئونهم عن الجمعة ، وتغدو الملائكة فيجلسون على أبواب المساجد ، فيكتبون الرجل من ساعة ، والرجل من ساعتين ، حتى يخرج الإمام ، فإذا جلس مجلساً سيتمكن فيه من الاستماع والنظر فأنصت ولم يلغ كان له كفلان من الأجر ، فإن نأى حيث لا يستمع فأنصت ولم يلغُ كان له كفل من الأجر ) الحديث [ رواه أبو داود ] ، وهناك فضائل أخرى وردت في السنة فمن طلبها وجدها .
* وأخيراً نصيحتي لكل مسلم : أن يحقق الاستسلام لله تعالى ، وأن تظهر عليه آثار هذا الدين الذي يعتقده ، وذلك بالمواظبة على الصلوات في المساجد جمعة وجماعة ، ويحافظ على سننها ورواتبها وأورادها وأذكارها ، ليدل كل هذا على محبته لهذه العبادة ، وإقباله إليها برغبة وصدق وإخلاص ، وبالتقرب إلى ربه تعالى بالأعمال الصالحة ، فيكثر من ذكر الله تعالى صباحاً ومساءً ، ويدعو ربه غدواً وعشياً ، ويتعاهد الصدقة حسب تمكنه ويساره ، ويعمل ما أستطاع من القربات من صيام وصلة وحج وعمرة وبرّ وإحسان ونصح وإخلاص ودلالة على الخير وأمر بمعروف ونهي عن المنكر . وننصح المسلم بالبعد عن الآثام وأنواع الأجرام ، فيحفظ جوارحه عن المعاصي : فيصون سمعه عن اللهو واللعب ، والغناء والطرب ، ويغض بصره عن النظر إلى الصور الفاتنة ، والأفلام الهابطة ، ويصون كسبه عن الحرام والمشتبه ، ويحرص على صحبة الأخيار ومجالسة الصالحين ، والقرب من العلماء العاملين ، وهكذا حتى يكون ذلك سبباً لقبول عباداته ، وتقبل مواعظه وإرشاداته ، ويكون ممن يسمع ويطيع وبذلك ينجو من عذاب الله وسخطه .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .