فيما هما في الحافلة يمرحان ويضكحان ويتآنسان طوال أكثر من نصف المسافة ، إذ صمت صلاح فجأة . صمت صمتاً وقوراً مُصغياً .. وكان نبيل لا يزال يواصل حديثه . فتعجب مما رأى . وفي نفسه لام نفسه وتساءل معها :
-" ما الذي أصمته هكذا فجأة ؟ لعله سمع مني كلمة أزعجته " .
نظر نبيل إلى صديقه مرة أخرى ، فرآه على صمته الوقور المصغي ، فزاد عجبه وقال في نفسه :
" ترى هل تذكر شيئاً مهماً دعاه للتفكير هكذا مع نفسه ؟!" .
وبقي نبيل يحدّس ويخمّن ويحزر ، لعله يعرف سرّ صمت صديقه الوفي . ثم قرر أن يسأله ، لكنه تردد وقال في نفسه :
" ربما هو منزعج من أحد الركاب ، ولا يريد أن يخبرني ، أو ربما أصيب بالدّوار الذي يصيب بعض الناس في الأسفار ! ولكن لا ، سوف أسأله على كل حال .!" .
قال نبيل :
عزيزي صلاح!ما الذي أسكتك هكذا،وجعلك تصمت كل هذا الصمت؟!
فتح صلاح فمه قليلاً لكنه عاد وأطبق شفتيه على الفور ، كما لو أنه أصيب بعجز مفاجىء عن النطق . فألحَّ نبيل كعادته في التودّد إلى صديقه وقال :
- بالله خبّرني بسرّ صمتك الوقور يا صديقي !.
فنظر صلاح إلى صديقه نبيل نظرة عميقة . وبهدوء أخرج ورقة من جيبه وقلماً وكتب :
" سأكلمك بعد قليل وليس الآن ، فاعذرني يا صديقي !".
فصاح نبيل بصبر نافد :
- ولكن قل لي ما أصابك يا عزيزي !.
لكن " صلاح " ظل على صمته ، فالتزم نبيل الصمت مثله ، ولكنه بقي ينظر إليه بذهول ودهش ..
ثم فتح صلاح فاه مرة ثانية ، ففرح نبيل وظن أنه سيكلمه . وتكلم صلاح فعلاً ، ولكنه قال بهدوء :
صدق الله العظيم .
فزاد ذهول نبيل وقال : " إذن أنت تستطيع الكلام ولم تصب بشيء ؟!".
قال صلاح :
- نعم،الآن أستطيع الكلام معك،أما قبل الآن فلم أكن قادراً عليه !.
تحيّر نبيل وقال :
- أكاد لا أفهم ما تقول ، كيف تستطيع وكيف لا تستطيع ؟ أهكذا فجأة تتبدل الأحوال ؟.
ردّ صلاح :
- نعم ، فقبل الآن كنت مصغياً لتلاوة القرآن الكريم ، الذي كان يبثها مذياع السيارة .
وقبل أن يتفوه نبيل بكلمة قال صلاح مستفسراً:
- ما بك يا صديقي كأنك نسيت قول الله تعالى
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون .
قال نبيل وظلال الخجل تصبغ ملامح وجهه :
- نعم ، نعم ، صدق الله العظيم .
وصمت قليلاً ثم طال صمته كأنه يريد أن يعوّض الصمت الذي فاته ، أو كأنه يحاسب نفسه .. وكان يردد مع نفسه بين وقت وآخر :