نشأ الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم في كنف والده صاحب السمو الشيخ سعيد بن مكتوم
آل مكتوم الذي اشتهر بالورع والتقوى وسمو الأخلاق وترعرع في حضن والدته المرحومة
الشيخة حصه بنت المر التي كانت لها مكانه خاصة في نفوس المواطنين لما اتصفت به من قوة
الشخصية و الإرادة وهي صفات ورثها عنها ابنها راشد وتأثر بها.
كانت دبي حينما رأى راشد النور لأول مره لا تزال في حالة الشيخ بطئ بن سهيل بن مكتوم
الذي تولى مقاليد الحكم في الأمارة في الفترة من عام 1906الى 1912 كانت فيها دبي تعتمد
بشكل كبير على اللؤلؤ كمصدر أساسي للدخل . وفي العام الذي ولد فيه راشد تولي أبوه الشيخ
سعيد بن مكتوم زمام الأمور في دبي . وطوال فترة حكمه التي امتدت حتى عام 1958 أدار الشيخ
سعيد شؤون الإمارة باعتماده سياسة الدبلوماسية بدلا من اخذ الناس بالشدة والبطش . فقد
عرف عن الشيخ سعيد تحليه بالبساطة وانه كان رجلا متدينا .
الشيء الذي جعله محبوبا لدى الناس . وكانت بساطته تتجلى في إيثاره الواضح للأشياء
البسيطة شانه في ذلك شأن البدو من رعيته . وكان عاشقا لرياضة الصيد في صحراء دبي.
وهكذا وجد الشيخ سعيد نفسه بعد توليه سدة الحكم في الإمارة إزاء تحديات
ومسؤوليات جديدة في وقت كانت دبي تنتعش كمركز تجاري .
فانكب على تلك المسؤوليات انكبابا
. إما الشيخ راشد الصغير فقد كانت أمه الشيخة حصة تهتم بقضاء
أطول وقت ممكن معه فكان تأثيرها عليه كبيرا.
كانت علامات الذكاء تشع من عيني الشيخ راشد وهو طفل يافع .
وبدا ذلك جليا من خلال ولعه بطرح الأسئلة على الكبار الذين
أحاطوا به وبات إمارات المسؤولية واضحة على الشيخ راشد منذ
طفولته المبكرة . فهو لم يكن ميالا للانغماس في اللعب واللهو
كثيرا كغيره من رفاقه الأطفال . ولعل تلك المنشأة الجادة هي
أضفت على شخصيته عندما كبر روح المثابرة والجدية.
وفي عام 1916 أنجبت الشيخة حصة بنت المر طفلا أخرا هو الشيخ
خليفة بن سعيد ولم يكن الشيخ راشد قد تجاوز حينها الرابعة من عمره .
فكان أن وجد راشد في أخيه الصغير خير رفيق فمنحه كل حبه ورعايته .
وترعرعا معا في كنف والدين أسبغا عليهما كل حنان وعطف .
وتكفلاهما بالتربية كأحسن ما تكون التربية.
ومن عجب أن الشيخ راشد كان يبدي رغم صغر سنه شغفا للاستماع لما يدور
من أحاديث في مجلس أبيه الحاكم . وكان مواظبا على الجلوس بجانب
أبيه يصغي السمع للحوارات والآراء المختلفة دون أن يبدر منه ما يدل
على الملل أو الضجر . فكانت تلك المجالس أشبه بالدورات التدريبية
للفتى إذ تعلم منها الصبر وطول الأناة وبعد النظر وكثيرا من المعرفة.
ولما بلغ الشيخ راشد سن التعليم ألحقه والده بالكتاتيب إذ كانت تلك هي
معاهد الدراسة الوحيدة المتوفرة في المنطقة آنذاك في وقت لم يكن فيه
وجود لمدراس نموذجية . فتعلم في تلك الكتاتيب ما شاء له أن يتعلم من
علوم الفقه واللغة العربية . ثم أرسل الشيخ سعيد ابنه راشد لتلقي التعليم
النظامي في مدرسة الاحمديه في ديره حيث نهل العلم من خيرة المعلمين
في ذلك الأوان . فتفقه في العلوم الدينية إلى جانب علوم اللغة العربية
والتاريخ والحساب والجغرافيا . وكان الشيخ راشد اصغر تلاميذ هذه
المدرسة والتي كانت المدرسة الوحيدة في دبي.
نشأ الشيخ راشد محبا لرياضة الصيد بالصقور والقنص تماما مثل والده الشيخ سعيد .
وقد جعل الهواية الشيخ راشد يزداد قربا من والده بقية عمره.
وقد تعلم الشيخ راشد من تلك الهواية الاستيقاظ مبكرا.
وركوب الصعاب فلم يكن لحياة الدعة والراحة أي اثر عليه .
وكان هو وأصدقاؤه يخرجون مبكرا إلي الصحراء بعيدا عن
المدينة لتدريب الطيور استعداد لفصل الشتاء ولرحلات القص
التي أصبحت من الأنشطة السنوية بالنسبة لآل مكتوم.
وتهيأت للشيخ راشد في تلك الرحلات الفرصة لمرافقة والده الحاكم حيث
اكتسب منه بعض الصفات التي تساعده فيما بعد في إدارة شؤون الإمارة.
ولم ينقض العام 1924 إلا وقد كان الشيخ راشد شخصية دائمة الحضور في
مجلس أبيه الذي كان يضم علية القوم وأهل السياسة والاقتصاد .
وفي تلك البيئة بدأت شخصية الشيخ راشد تتشكل حيث ساعده ذكاؤه
الوقاد وحرصه الشديد على الإلمام بأمور السياسة ودهاليزها.
ونما لديه حس تجاري كبير وعليه لم يكن غريبا أن يعرف الشيخ راشد لدى الناس
بـ “ الشاب الجاد" لما اتسم به من صراحة وجدية في التعامل مع كثير من القضايا
حتى انه كان يتبنى مواقف وصفت حينها بأنها راديكالية.
وقد جعله حسه التجاري الطاغي يبرع في مزاولة التجارة كما سيبرع بعدها في
السياسة على نحو ما سنرى لاحقا.واستطاع الشيخ راشد بحنكته وحسه التجاري
أن يصبح ثريا وهو في منتصف العشريان من عمره.
ثم كان أن ضرب المنطقة كساد عظيم أدى إلى انهيار اقتصاد ساحل الإمارات
المتصالحة بسب ما أصاب اللؤلؤ الطبيعي من بوار اثر ظهور اللؤلؤ الصناعي.
ولما اشتدت الأزمة الاقتصادية واستحكمت حلقتها على البلاد لم يجد الشيخ سعيد مناصا
من أو يوكل ابنه راشد مسؤولية التعامل مع الأزمة دون أن يبخل عليه بالنصح والمشورة
متى لزم الأمر . وفي حقيقة الأمر فان تدهور تجارة اللؤلؤ منذ ثلاثينيات القرن الماضي
تسببت في مشاكل لا حصر لها لمن يعملون في التجارة وخصوصا ربابنة السفن
والغواصين الذين غرقوا في الديون والمشاكل.
وقد تجلت براعة الشيخ راشد في إدارة الأزمة في موقفه الثابت إزاء الفوضى التي
كانت تظهر بين حين وأخر مع انتشار أعمال السلب والنهب في صيف عام 1928 .
وقد عرفت تلك الفترة من أواخر الثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي بسنين القحط
فهي الفترة التي شهدت اندلاع الحرب العالمية الثانية.
وبدت قدرات الشيخ راشد في إدارة شؤون الحكم أكثر ما تكون وضوحا إبان الحصار الاقتصادي الذي فرضه البريطانيون. الذين كانوا جزءا من دول الحلف . على إيران التي كانت تساند دول المحور في تلك الحرب . ولأحكام الحصار على إيران فرض البريطانيون على دبي حظرا على استيراد المواد الغذائية حتى لا تجد طريقها إلى إيران.وما كان أمام الشيخ راشد في مع مواجهة هذا الموقف إلا أن يسعى لتوفير المواد الغذائية الأساسية لرعاياه وبأسعار تتلاءم مع المستوى الاقتصادي للناس في ذلك الوقت فكان أن ادخل نظام البطاقات الذي يسمح للمواطن بالحصول على حصته الشهرية من المواد الغذائية اللازمة له ولإفراد أسرته . واستعان الشيخ راشد في ذلك بأصحاب البقالات الذين تولوا مهمة توزيع تلك المواد بموجب الحصص الشهرية المذكورة في البطاقات.
فلا غرو أن يصبح مجلس الشيخ راشد. بعد ما أبداه من حسن تدبير و إدارة للازمات على درجة من الأهمية لا تقل عن أهمية مجلس أبيه.وفي مجلسه ذاك ظهرت كفاءة الشيخ راشد في اتخاذ القرار الحاسم ومقدرته على الإقناع الأمر الذي اكسبه حب شعبية كبيرة خاصة وسط شبان المدينة.
والى جانب هذه المهام كان الشيخ راشد مؤازرا لأبية في الشؤون الرئيسية . وكان مناصرا للسياسة التي جعلت من دبي اكبر سوق في المنطقة فقد كان يردد دوما عبارة ( ما هو مفيد للتجارة . مفيد لدبي ) . وبفضل إدراك ووعي الشيخ راشد ومن خلفه والده الذي ظل يؤازره . بقيت أسواق دبي مزدهرة بالرغم من حالة الكساد التي عصفت بالمنطقة آنذاك. وقد بدا واضحا في الأربعينيات من القرن الماضي أن الشيخ راشد . بالرغم من انه لم يولى مسؤوليات الحكم رسميا إلا بعد عقدين من تلك الفترة . فقد كان يشارك بفاعلية في صنع القرار . ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى كان الشيخ راشد يحضى باعتراف من داخل البلاد وخارجها بحسبانه الدعامة الأساسية للحكم في دبي.
كان التاسع والعشرون من مارس عام 1939 تاريخا مشهودا في حياة الشيخ راشد . سوما سعيدا في لدبي وأهلها إذ احتفلت الإمارة كلها بزفاف ابنها الشيخ راشد إلي الشيخة لطيفه بنت حمدان آل نهيان.
وقد حضر الاحتفالات التي أقيمت بهذه المناسبة شخصيات كبيرة وفدت من الدول المجاورة وجموع غفيرة من المواطنين جاءوا ليعبروا عن فرحتهم وتهنئتهم للشيخ سعيد والشيخ راشد.
وما لبث أن بدأت مظاهر الانتعاش تظهر على دبي حيث وصفها الرحالة البريطاني الشهير ( ويلفريد تسجير ) اثنا رحلته الأولى لها عام 1949 بأنها مدينة مزدهرة.
ولأنه كان يؤمن بالحكمة القائلة بأن البركة في البكور كان يوم الشيخ راشد يبدأ باكرا حيث دأب على الاستيقاظ في الخامسة صباحا. وبعد أن يؤدي فريضة الفجر يمتطي صهوة جواده أو ناقته ليتابع بنفسه سير العمل في المشاريع المختلفة .وذلك دون رفقة حرسه أو أتباعه حتى بعد أن امتلك السيارة. وبعد جولته هذه يعود لمنزله لتناول وجبة إفطار خفيفة ثم يتوجه إلى مركز الجمارك بالمدينة والذي اتخذه الشيخ راشد مكتبا رسميا لحكام دبي حيث اعتاد الجلوس على كرسي خشبي فكان ذلك المظهر المتواضع وهو جالس على ذلك الكرسي أمام ضيوفه أول ما يلفت انتباه أي زائر لمجلس الشيخ . وبعد نهار حافل بالعمل والاتصالات إلى مظالم الناس ومطالبهم يعود الشيخ راشد عند الواحدة بعد الظهر إلى منزله لتناول طعام الغداء . قبل أن يخلد إلى قيلولة قصيرة . ثم يستأنف نشاطه عند الرابعة يتفقد المشاريع والأعمال الجارية في المدينة . وفي المساء حين يعود إلي منزله ثانية يتهيأ الشيخ لاستقبال المواطنين على شكواهم في صبر وانأه . هكذا كان يقضى الشيخ راشد يومه وهو يوم ينضح بالعمل الدءوب والنشاط الفياض.
وقد عرف عن الشيخ راشد ولعه بركوب الخيل وخاصة في فترة ما بعد الظهيرة . وعن هذه الهواية للشيخ راشد يقول الصحفي البريطاني (جريم ويلسن) . في كتابه راشد بن سعيد آل مكتوم الوالد والباني . انه كان لآل مكتوم آنذاك إسطبل به عشرون حصانا بالقرب من حصن الفهيدي في دبي وكانت علاقة الشيخ راشد الحميمة بحصانه ( الصقلاوي) حديث المدينة . وكانت أول سيارة يقتنيها الشيخ راشد في عام 1932.
ولعل أكثر ما كان يميز الشيخ راشد في مجلسه اليومي انه كان يحرص على الاستماع بانتباه للمتحدثين الذين كانوا يدلون بآرائهم بحرية تامة دون أن يقاطعهم . ولم يكن الشيخ راشد يحب أن يحاط بمن كانوا يوافقونه الرأي طوال الوقت واتسمت المداولات والحوارات في ذاك المجلس بالجدية ومعالجة كل الأمور التي تهم المواطنين وقضايا التنمية والعمران.
ووصف جريم ويلسن مجلس دبي بأنه كان تقدميا ولعب دورا مهما في تعزيز التنمية في دبي . ولم يكن الشيخ راشد ليتهاون مع المتقاعس ويجزل العطاء لكل من يثق به . ولا يظن امرؤ ان مجلسه كان قاصرا على الخاصة من المقربين بل كان بابه مفتوحا لعامة الناس . فقد كانت عادة الشيخ راشد خلال شهر رمضان المبارك أن يقضي الليل كله في مجلسه لاستقبال المواطنين حتى صلاة الفجر.
ومن مجلسه هذا كان الشيخ راشد يستقر على خطط تعمير دبي . وكان يأنس بآراء أهل الخبرة ولا يعتد برأيه إذا رأي أن ثمة وجهة نظر أخر هي الصحيحة فيأخذها بعين الاعتبار.
ويتضح من ذلك أن الشيخ راشد لم يكن أبدا ديكتاتوريا يفرض على الآخرين آراءه بل ديموقراطيا يستنير برأي الخبراء وأهل النصح ويعمل بمشورتهم إذا رأي أنها الأكثر فعلية والأجدى عند التنفيذ. ولعل من أهم أسباب نجاح ذلك المجلس هو أن الشيخ راشد أحاط نفسه بكوكبة من الأصدقاء المخلصين والمقربين الثقاة فكانت قراراته تخرج من مدروسة بعناية . وكان مزيجا من مختلف الجنسيات العربية والأوربية والهندية . الأمر الذي أضفي على القرارات فعالية كبيرة.
وينسب جريم ويلسن في كتابه لكمال حمزة . أول مدير لبلدية دبي والتي أنشئت عام 1957. قوله أن الشيخ راشد اعتاد أن يرسم المشروع على الرمال بعصاه ثم يطلب من المهندسين أن يعدوا التصميم الهندسي بناءا على الخطوط التي يحددها على الرمال . وكان يشير إلى المكان الذي يريد تشيد طريق أو بناية فيه . وكان المصممون يتتبعون الخطوط التي رسمها.
وبدأت مشاريع التنمية ترى النور في إمارة دبي . وبدا الناس يجنون ثمار التخطيط الدروس بفضل النظرة الثاقبة للشيخ راشد الذي ما أن انتهى من تخطيط وتنفيذ مشروع حتى يبدأ بالعمل في مشروع جديد . وتوالت الإنجازات والتي سنتحدث عنها بشي من التفصيل في الأبواب التالية من هذا الكتاب.
وفي صبيحة العاشر من سبتمبر عام 1958 اسلم الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم حاكم دبي الروح إلى بارئها بعد تدهور حالته الصحية . وما أن ذاع الخبر حتى خيم الحزن على المدينة . وكان حزن الشيخ راشد على رحيل والده شديدا.
وبعد مراسم تشييع الراحل الشيخ سعيد رحمه الله تولى الشيخ راشد حكم إمارة دبي رسميا بعد أن كان طوال فترة العقدين اللذين سبقا ذلك الساعد الأيمن لأبيه في إدارة شؤون الحكم.
العرض العادي
