إن من القضايا المهمةِ حال النقاشِ العلمي البعدُ عن العواطفِ ، ولا شك أن ما قام به الحجاجُ من سفكٍ للدماءِ ، وهدمٍ للكعبة بالمنجينق ، لا يخرجهُ عن دائرةِ الإسلامِ ، ولو حصل ذلك لكفرهُ الصحابةُ رضي اللهُ عنهم ، وقد نقل بعضُ الإخوة ممن عقبوا على المقالِ هنا بعضَ النقولِ تثبتُ تكفير بعضِ السلفِ للحجاجِ بنِ يوسف الثقفي .
فنقولُ لهم : هل تقبلون النقاش العلمي البعيد عن العاطفةِ والتشنج ؟
إن قلتم : نعم ، فإليكم الرد .
إن مما قرره أهلُ السنةِ والجماعةِ في بابِ التكفيرِ عدمَ تكفيرِ صاحبِ الكبيرةِ بحالٍ ، وهذا الأمرُ أصلٌ من الأصولِ ، ولستُ في مقامِ التفصيلِ لهذه المسألةِ لأنها أشهرُ من أن تقررَ .
نأتي على الظالمِ الجبارِ سفاكِ الدماءِ - عاملهُ اللهُ بما يستحق - وننظرُ في النصوصِ التي وردت في حقهِ من كلامِ السلفِ ، فقد وردت نصوصٌ بلعنهِ ، ونصوصٌ أخرى بتكفيرهِ وعدم تكفيرهِ ، وننقلُ جميعَ النصوص الواردةِ للفريقين ، ثم بعد ذلك يتبين الصوابُ في المسألةِ .
- روى الخلالُ في " السنة " (851) بإسنادهِ فقال : وأخبرني محمدُ بنُ علي قال : ثنا صالح أنه قال لأبيه : الرجلُ يُذكرُ عنده الحجاجُ أو غيرهُ فيلعنهُ ؟ قال : لا يعجبني لو عبر فقال : ألا لعنةُ اللهِ على الظالمين ، وروى عن ابنِ سيرين أنهُ قال : المسكينُ أبو محمد .
قال المحققُ لـ " السنة " : إسناده صحيحٌ . وقال عن المقصودِ بأبي محمد : لعله يقصدُ الحجاجَ فكنيته أبو محمد .
- وروى أيضاً (853) فقال : وأخبرني زكريا بنُ يحيى أن أبا طالب حدثهم قال : قال أبو عبد اللهِ : كان الحجاجُ بن يوسف رجلُ سوءٍ .
قال المحققُ : إسنادهُ صحيحٌ .
وكذلك الواجبُ على المسلمِ أن يجتنبَ اللعن ، وأن لا يعود لسانه عليه .
ولاشك أن في الأمةِ من أمثالِ الحجاجِ كثر ، بل أشد منه .
- روى الخلالُ في " السنة " (858) فقال : أخبرنا الدوري قال : ثنا شاذان قال : ثنا سفيان الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : يأتي على الناسِ زمانٌ يصلون فيه على الحجاجِ .
قال المحققُ : إسناده صحيحٌ ، وهذا صحيحٌ على معنى : " لا يأتي زمانٌ إلا والذي بعده أشر منه " كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكم من حجاجٍ تولى على المسلمين من بعد الحجاجِ فكان شره مستطيراً وعمل أكثرَ مما عمل الحجاجُ .ا.هـ.
أما المسألةُ الثانيةُ في هذا المبحثِ مسألةُ تكفير الحجاجِ بنِ يوسف ، وهي مسألةُ وردت فيها نصوصٌ عن السلفِ حكموا بكفرهِ ، وفي المقابلِ جاءت أفعالُ الصحابةِ على النقيضِ من ذلك ، فقد صلوا وراءهُ ، وحجوا معهُ ، وسأذكرُ النصوصَ الواردةَ لكلا الفريقين .
القولُ الأول : القائلون بعدمِ كفرهِ :
أدرك بعضُ الصحابةِ زمن إمارةَ الحجاجِ ومنهم ابنُ عمر ، وأنسُ بنُ مالك ، وعبدُ الله بن الزبير وكانوا يعرفون ما عند الرجلِ من ظلمٍ وجورٍ وسفكٍ للدماءِ ومع هذا لم يقولوا بكفرِ الحجاجِ ، وهذه بعض النصوصِ في هذا المقام :
وفي فعلِ ابنِ عمر مع الحجاجِ فيما سبق أيضاً من الفوائد صلاةُ ابنِ عمر خلف الحجاجِ ، وقد جاء مصرحاً به .
عن عمير بن هانىء قال : " شهدتُ ابنَ عمر والحجاجُ محاصرٌ ابنَ الزبير ، فكان منزلُ ابنِ عمر بينهما فكان ربما حضر الصلاةَ مع هؤلاءِ ، وربما حضر الصلاة مع هؤلاءِ .
قال العلامة الألباني في " الإرواء " (2/303) : وهذا سند صحيح على شرطِ الستةِ .
وكان أنسُ بنُ مالك رضي الله عنه يجيبُ على أسئلةِ الحجاجِ ولا يكتمُ شيئاً من العلم ، على ما في الرجل من شدةٍ ، وظلمٍ ، وتعلقهِ بأدنى شبهةٍ في العقوبةِ ، ويدل لذلك ما جاء في الحديثِ :
وبعد ذكرِ هذه النصوص عن الصحابةِ ، وما وجدوهُ من الحجاجِ ، فلم نجد من أحدهم أنهُ كفرهُ ، أو ألمح حتى إلى تكفيره ، فلو ظهر لهم أدنى أمرٍ مكفرٍ من الحجاجِ لما ترددوا في تكفيره ، لأن الصحابةَ لا يعهدُ عنهم كتمان الحقِ وبيانهِ .
وهذا سفيان الثوري حينما سُئل عن الحجاج ماذا قال ؟
روى اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " (6/1150) بسنده فقال :
أنا عيسى بن علي ، أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي ، قال : نا أبو سعيد الأشج قال : أبو أسامة : قال رجلٌ لسفيان : أتشهدُ على الحجاجِ وأبي مسلم أنهما في النار ؟ قال " لا ؛ إذا أقرا بالتوحيد " .