* مقدمة : عثرت على هذا الكتاب الصغير جدا بحجم كف اليد قابع في مكتبتي القديمة ، وحين راحت عيناي تجري بين السطور ، تأكد لي أن المقولات التي ترجع لفترة زمنية تصل إلى حوالي أربعين عاما ، مازالت قابلة للطرح هذه الأيام أيضا ، اسم الكتـــاب ( ما الأدب ) ، مؤلفه الكاتب المسرحي الراحل الدكتور رشاد رشدي ، وقد أهدى الكتاب لزوجته الدكتور لطيفة الزيات التي ستنفصل عنه بعد ذلك بعد تجربة مريرة لكليهما ، كما رصدت ذلك في كتابها البديع " أوراق شخصية ، حملة تفتيش " ، رحم الله الجميع ..
تأملوا معي بساطة العبارة ونصوع الرؤية رغم أنني أختلف مع الدكتور رشاد رشدي الذي كان يرفع شعار " الفن للفن " في مواجهة نقاد كبار آخرين كانوا يرفعون شعار " الفن للمجتمع " لكن هذا لا يمنعنا من الإعجاب بلغة الكاتب أبدا ، وبساطة مفرداته وعمق معالجته لموضوعه في آن ..
وهاكم مقتطفات من" الكتاب المعلم " كما أراه كذلك :
* البلاغة ـ وفقا للنقد الجديد ـ ليست في صدق الإحساس أو في صدق التعبير أو جمال الأسلوب وإفصاحه عن شخصيات الكاتب ، بل ـ كما يقول ـ أليوت في أن يخلق الكاتب معادلا موضوعيا للإحساس الذي يرغب في التعبير عنه ، أو بعبارة أخرى أن يخلق الكاتب شيئا يجسم الاحساس ويعادله معادلة كاملة فلا يزيد أو ينقص عنه ، حتى إذا ما اكتمل خلق هذا الشيء ، أو هذا المعادل الموضوعي ، أستطاع أن يثير في القاريء الإحساس الذي يهدف إلى إثارته .
* من مقاييس البلاغة في النقد الجديد أيضا ما أجمع النقاد على تسميته بالمعنى الكلي للعمل الفني ، فمعنى القصة أو القصيدة لا يستمد من جزء من أجزائها أو من عنصر من عناصرها منفردا عن بقية العناصر بل من القصيدة أو القصة بأجمعها ، ككل له كيانه المستقل الذي يعتمد على نسيجها وتركيبها والعلاقات المختلفة القائمة بين النسيج والتركيب وبين العناصر المتباينة التي تتألف منها القصة أو القصيدة ، كالعصور والشخصيات والأوصاف والحوار والمواقف والحوادث والأفكار والرؤى ، وكلها عناصر وظيفية يتضامن بعضها مع البعض في التعبير عن الإحساس الذي يريد الكاتب نقله إلى القاريء .
* اللغة كرمز يجب أن تكون قريبة من الشيء الذي ترمز إليه حتى تطابقه مطابقة تامة ، فلا يجوز مثلا أن ترمز إلى تفكير أو إحساس رجل مصري في النصف الثاني من القرن العشرين بلغة عربية فصحى كما يفعل معظم كتابنا ، فاللغة في هذه الحالة تولد الإحساس بدلا من أن ترمز إليه ، وليس هذا من البلاغة أو الأدب في شيء .
* وقد ظلت فكرة أن الأدب تعبير عن شخصية الكاتب أو بيئته عالقة بأذهان الناس طوال الحركة الروما نتيكية إلى أن جاء الفيلسوف الإيطالي ( بندتيو كروتشي ) في أوائل هذا القرن فأثبت أن الأدب إحساس ، وأن الخلق الأدبي يحتم أن ينتقل هذا الإحساس من الذاتية إلى الموضوعية أو الشيئية ، فالقصيدة كالصورة ليس من المفروض أن نرى فيها ملامح الرسام واختلاجات نفسه ، بل ملامح منظر أو شيء معين تتفاعل فيها الظلال والألوان والنسب والأبعاد لتثير في النفس إحساسا معينا يريد الفنان إثارته .
* فالأدب ليس في إطلاق المشاعر بل هو هروب منها كما أنه ليس تعبيرا عن الشخصية بل تحررا منها . والكاتب لا يفتأ يتنازل عن نفسه كما هي في اللحظة القائمة إلى شيء أثمن منها وأقيم ، ومن ثم كان تطور الكاتب تضحية بالذات لا تنقطع وانعداما مستمرا لشخصيته.
* نضوج العقل الخالق يصور لنا قصة النضال بين الكاتب وذاتيته فكلما ازداد انفصال الفنان عن ذاتيته كلما دل ذلك على قدرته الفـــنية . لأن القدرة الفنية أو ال technique هي التي تمكن الكاتب من أن ينفصل نفسه عن مادته ويكتشف بذلك معناها ويحدد قيمتها .
* قلت أن العمل الأدبي يصور الحياة ، ولكنه ليس صورة لها .. فالعمل الأدبي لا يمكن أن يكون إلا صورة لنفسه فقط ، بمعنى أنه لا يمكن أن يزودنا بشيء خارج عن نطاقه ، لأن قيمة العمل الأدبي ليست فيما يمدنا به من معلومات أو خبرات مطلقة بل في الأثر المعين الذي يحدثه في نفوسنا كما هو ـ كاملا محدودا ـ كما خلقه الفنان .. وليس هناك من شك في أن الحياة هي الأصل الذي نشأ عنه العمل الأدبي كما هي الأصل في كل شيء آخر ، ولكن عناصر الحياة بما فيها من مشاعر وخبرات مختلفة خلق منها الفنان العمل الأدبي لا تبقى بعد عملية الخلق الفني كما كانت ، بل تمتزج امتزاجا من شأنه أن يحيلها إلى شيء يختلف في طبيعته وفي أثره علينا عن نفس هذه العناصر كما نعرفها في الحياة .
* ليست الواقعية في أن تصور ما حدث ، بل ما يمكن أن يحتمل حدوثه لا حسب منطق الحياة كما نعرفها ، بل حسب منطق الحياة في القصة نفسها .. وهذا هو الفرق بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الفنية .
* النقد ليس تعبيرا عما يحب الناقد أو يكره .. وهو ليس كذلك تصويرا لانطباعاته و أحاسيسه ، فالناقد من أصحاب المدرسة الجديدة موضوعي كالعالم ، وهو لايقيس الأعمال الأدبية طبقا لقواعد موضوعة بل للقوانين الأدبية التي يستخلصها من دراسته لهذه الأعمال عن طريق الاستقراء ، تماما كما يستخلص العالم قوانين الطبيعة من دراسته للظواهر الطبيعية .
كما ينبغي العالم دائما غرضا معينا من وراء البحث العلمي ، كذلك الناقد الجديد الذي يهدف دائما إلى غاية محددة ، وهي أن يرى العمل الأدبي كما هو على حقيقته .
…………………………………………………..
مصدر : د. رشــــــاد رشـــــــــدي ، ماهو الأدب ، مكتبة الأنجلو المصرية ،99 صفحة من القطع الصغير ، بدون تاريخ إصــــدار
لكن تقديم المؤلف لكتـــــابه في الصفحات الداخلية يشير إلى مايو 1960.