كانت سوق عكاظ في الجاهلية أشبه ما تكون بالسوق الموسمية الحرة التي يتجمع
فيها المتاجرون بصناعاتهم ومستورداتهم من كافة أنحاء العالم. ولم تكن سوقا
منفردة بذاتها أو مأهولة بقبيلة أو فئة من الناس بعينها، بل كانت سوقا عالمية
حرة ترفدها عشرات الأسواق الموسمية الأخرى في مختلف أنحاء الجزيرة العربية،
ويرتادها التجار من مختلف الشعوب من الهنود والأحباش والفرس، إضافة للعرب سواء
بأنفسهم أو ببضائعهم. ومن المهم أن نلاحظ أن شبكة الأسواق الموسمية التي ترفد
سوق عكاظ بالبضائع والمنتجات كانت تنتشر على نطاق جغرافي مدروس للغاية،
وتؤقت موسميا لتتكامل ولا يحدث بينها أي تصادم أو تضارب في المواعيد، لتصب
في النهاية في سوق عكاظ كمركز تبادل وتجميع عالمي للبضائع التي تنقلها
قوافل قريش فيما بعد نحو الشام واليمن أو لنقل نحو أوروبا شمالا وأفريقيا والهند جنوبا.
وتتشكل خارطة الأسواق العربية التي ترفد سوق عكاظ من الأسواق الشرقية (هجر
وحجر وعمان وصحار والمشقّر) والوسطى (اليمامة) والشمالية (دومة الجندل) والجنوبية
(حباشة والشحر وعدن وحضرموت) ولا تتزامن هذه الأسواق بالانعقاد ولكنها تترابط
زمنيا حتى يتمكن التجار من الانتقال من سوق لآخر لتجميع البضائع قبل الاتجاه بها
نحو أسواق الحج التي تبدأ بعكاظ الذي ينعقد خلال العشرين يوما الأولى من ذي
القعدة ومنه يتم التوجه إلى (مجنة) حتى هلال ذي الحجة ومنه إلى (ذي مجاز)
الذي ينعقد في منى حتى يوم التروية ليجاز منه الحجيج للتوجه إلى عرفات.
ولقد ساهم في نجاح سوق عكاظ والأسواق العربية التي ترفده عاملان رئيسيان
هما انقطاع (طريق الحرير) الذي يصل الشرق بأوروبا نتيجة للحرب الفارسية البيزنطية،
وانهيار السلطة الحبشية على جنوب الجزيرة العربية بعد هزيمة جيش أبرهة المنكرة
بعد هجومه على مكة المكرمة، مما أعطى قريش مكانة مميزة بين قبائل العرب
ومكنها من القيام بدور الوسيط التجاري العالمي بين الشمال والجنوب.
ولكن ما إن انتشر الإسلام وفتح العرب بلاد فارس وبخارى وسمرقند والسند
وغيرها حتى انفتحت خطوط التجارة العالمية القديمة مرة أخرى لينتقل مركز الثقل
في التجارة العالمية نحو الشمال، خاصة مع اتخاذ الأمويين ومن بعدهم العباسيين
لدمشق وبغداد عاصمتين لملكهم بدلا من مكة والمدينة. ومما زاد في الأمر سوءا
بالنسبة لأسواق الحج وفي مقدمتها عكاظ انتشار حركة الخوارج الحروريين،
الذين أرهبوا البلاد والعباد فتضاءلت أهمية تلك الأسواق
حتى لم يعد لها ذكر بحلول عام 129هـ.
وبالطبع فإنه من نافلة القول أن أعيد ما تقرأونه كل يوم عن النشاطات
الثقافية والأدبية والمعلقات الشعرية المصاحبة للنشاط التجاري في
أسواق العرب ومنها عكاظ، وهذا الجانب المصاحب هو ما يسعى
صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل لإحيائه
بدعم من خادم الحرمين الشريفين، وهو مسعى مبارك آمل أن يحيي
روح المنافسة ويسهم في تفجير الطاقات الإبداعية ويؤدي إلى حراك
منتج في بيئتنا الأدبية الخاملة.
ولكن حبذا لو تم التركيز على النشاط الأساسي في سوق عكاظ
وهو النشاط التجاري بإنشاء سوق حرة قريبة من المشاعر المقدسة
للاستفادة من التجمع الهائل للحجاج من مختلف المستويات، لما
سيعكسه على المنطقة من فوائد لا تحصى. صحيح أن موقع سوق
عكاظ الحالي كان مناسبا للنشاط التجاري في العصر الجاهلي، لأن
البضائع التي تشترى يتم نقلها بيسر وسهولة من الجبل إلى السهل
نحو مكة، التي كانت تعتبر مركز التجميع الرئيسي قبل تحرك
القوافل، ولكن ما الذي يبرر اتجاه الحاج إلى الطائف بعيدا عن
جدة ميناء القدوم والمغادرة للحرمين ليعود مرة أخرى نحو جدة،
ففي ذلك مشقة وتضييع للوقت والمال وتشتيت للجهد.
ولذلك أدعو صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أن ينظر
في إنشاء (سوق عكاظ التجارية الموسمية الحرة) في منطقة
مفتوحة بين جدة ومكة لمدة شهرين (ذو القعدة وذو الحجة) من
كل عام، على أن تكون قريبة من سكة حديد الحرمين ويربطها
طريق مباشر بميناء جدة الإسلامي. ويمكن بالتزامن مع موعد
انعقاد السوق التجارية أن ينعقد الجانب الأدبي والثقافي في
موقع سوق عكاظ الحالي، ولكن لمدة زمنية أقل حتى يمكن
الاستفادة من كافة القادمين للحج من العلماء والأدباء في
إحيائه بمختلف اللغات والاتجاهات، إضافة إلى تشغيله في
الصيف كما هو معمول به حاليا، فيصبح حينها ملتقى محليا
وعالميا معتبرا يثري العقول والجيوب.
وأعتقد أن اقتراحا كهذا قابل للنجاح إذا ما أخذنا بالاعتبار
أن كثيرا من الحجاج التجار يتجهون إلى الأسواق الحرة
المجاورة للمملكة لشراء احتياجاتهم وعقد الصفقات التجارية
الكبيرة قبل العودة إلى بلادهم. ففي تنفيذ مثل هذا المقترح
تسهيل عليهم وربحية وفيرة لتجار هذه البلاد الذين
هم أولى بمواسمهم من غيرهم ..
العرض العادي
