من أبرز المخالفات العقدية المنتشرة في ذلك الوقت:
وكان أهلِ عصرِه ومِصرِه في تلك الأزمان قد اشتدَّتْ غربةُ الإسلامِ بينهم, وعفَتْ آثارُ الدينِ لديهم, وانهدمَتْ قواعدُ الملةِ الحنيفية, وغلبَ على الأكثرين ما كانَ عليه أهلُ الجاهلية, وغلبَ الجهلُ والتقليدُ والإعراضُ عن السنةِ والقرآن, وجَدُّوا واجتهدوا في الاستغاثةِ والتعلقِ بغيرِ اللهِ من الأولياءِ والصالحين, والآثارِ والقبورِ والشياطين, وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون وبه راضون, فكانوا يُعَظِّمون قبرَ زيدِ بنِ الخطاب ويدعونه رغباً ورهباً, ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج.
وكذلك كان عندهم فُحَّالٌ ينتابُه النساءُ والرجال, ويفعلون عنده أقبحَ الفِعال, والمرأةُ إذا تأخرَ عنها الزواجُ تذهبُ إليه وتضُمُه بيديها وتدعوه برجاءٍ واجتهادٍ وتقول: "يا فحلَ الفحولِ أريدُ زوجاً قبلَ الحول", وشجرةٌ عندهم تُسمى "الطُريفية" أغراهم الشيطانُ بها, فكانوا يُعلقون عليها الخِرَقَ لعلَّ الولدَ يسلمُ من السوء ويرجون بركتَها.
ومثل هذا وأكثر يُفعَلُ بقبرِ أبي طالب وقبرِ ميمونةَ وخديجةَ زوجتي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم, وكذا يلجئون عند الملماتِ والشدائدِ لقبرِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما, وقبرِ الحسينِ وعبدِ القادر الجيلاني والعيدروس والبدوي وغيرهم, فعدلوا عن عبادةِ الرحمنِ إلى عبادةِ القبورِ والشيطان, وعَظُمَ الكهَّانُ والسحرةُ والمشعوذون, عَظُمَ أمرُهم, وصارَ كثيرٌ من الناس لا يعرفُ من الدينِ إلا الدروشةَ والترانيم, وأما صفاتُ اللهِ فأكثرُهم لا يُقِرُّ بها تقريباً للفلاسفةِ والملحدين, فما تفاقمَ هذا الخَطْبُ وعَظُم, وتلاطم موجُ الكفرِ والشركِ وجَشُم, وطُمِسَتْ الآثارُ السلفية, وظهرَتْ البدعُ والأمورُ الشركية.
(ثانياً/ دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى التوحيد ونبذ الشرك)
عند ذلك تجردَ الإمامُ المجددُ رحمه اللهُ للدعوة إلى توحيدِ ربِّ العالمين, وردِّ الناسِ إلى ما كانَ عليه سلفُهم الصالح, في بابِ العلمِ والتوحيدِ والإيمان, وبابِ العملِ الصالحِ والإحسان, وحذَّرَ من التعلقِ والتوكلِ على غيرِ اللهِ من الأنبياءِ والصالحين, والاعتقادِ في الأحجارِ والأشجارِ والعيونِ والآبار, ورغَّبَهم في متابعةِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم في الأقوالِ والأفعال, وهَجْرِ والبدعِ والمحدثات, وأنكرَ على الخارجين عمَّا جاءَتْ به الرسل, وصنَّفَ في الردِّ على من عاندَ وجادل, حتى أظهرَ اللهُ التوحيدَ في الأرض, وعَلَتْ كلمةُ الله, وذَلَّ أهل الشركِ والفساد, وعُبِدَ اللهُ وحدَه دون ما سواه, واجتمعَتْ الكلمةُ على التوحيدِ والسنة, فالحمدُ للهِ أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
(ثالثاً/ سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله يبيِّن أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب المباركة)
معاشرَ المؤمنين: لقد بيَّن العلامةُ الشيخُ عبدُ العزيزُ بنُ بازٍ رحمَه اللهُ على أثرِ دعوةِ الإمامِ المجدد, فقال ما مختصرُه: "من أبرزِ الدعاةِ المصلحين الإمامُ الشيخُ محمدُ بنُ عبدِ الوهابِ مجددُ القرنِ الثاني عشرَ الهجري, الذي وفقَه اللهُ للقيامِ بدعوةٍ إصلاحيةٍ عظيمة, أعادَتْ للإسلامِ في الجزيرةِ العربية قوتَه وصفاءَه ونفوذَه, وطهَّرَ اللهُ به الجزيرةَ من الشركِ والبدع, وهداهم به إلى صراطٍ مستقيم, وامتدَّتْ آثارُ هذه الدعوةِ المباركةِ إلى أجزاءٍ كثيرةٍ من العالمِ الإسلامي, وتأثرَ بها عددٌ من العلماءِ والمصلحين, وكان من أقوى أسبابِ نجاح هذه الدعوة أنْ هيأَ اللهُ لها حكاماً آمنوا بها ونصرُوها, وآزروا دعاتَها".
وقال: "إنَّ دعوةَ الإمامِ الشيخِ محمدِ بنِ عبدِ الوهابِ رحمه الله هي الدعوةُ الإسلامية التي دعا إليها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم, وصحابتُه الكرامُ, وسلفُ هذهِ الأمةِ الصالح, ولهذا نجحَتْ وحققَتْ آثاراً عظيمة رغمَ كثرةِ أعدائها ومعارضيها أثناءِ قيامِها, وذلك مصداقاً لقولِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: [لا تَزَالُ طَائفَةٌ مِنْ أُمَتِي عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ].
ثم قالَ سماحتُه رحمَه الله: "وهذه الدعوةُ مرتبطةٌ بمذهبِ السلفِ الصالحِ ولم تخرجْ عنه, وأثمرَتْ ثمراتٍ عظيمة لم تحصلْ على يدِ مصلحٍ قبلَه بعدَ القرونِ المفضلة, وذلك لما ترتبَ عليها من قيامِ مجتمعٍ يحكمُه الإسلام, ووجودِ دولةٍ تؤمنُ بهذه الدعوةِ وتطبقُ أحكامَها تطبيقاً صافياً نقياً في جميعِ أحوالِ الناس, في العقائدِ والأحكامِ والعاداتِ والحدودِ والاقتصادِ وغيرِ ذلك, ممّا جعلَ بعضَ المؤرخين لهذه الدعوةِ يقول:
[إنَّ التاريخَ الإسلامي بعدَ عهدِ الرسالةِ والراشدين لم يشهدْ التزاماً تاماً بأحكامِ الإسلام, كما شهدَتْه الجزيرةُ العربيةُ في ظلِّ الدولةِ التي أيّدَتْ هذه الدعوةَ ودافعَتْ عنها].
قال: ولا تزالُ هذه البلادُ والحمدُ لله تنعمُ بثمراتِ هذه الدعوة, أمناً واستقراراً ورغداً في العيش, وبُعداً عن البدعِ والخرافاتِ التي أضرَتْ بكثيرٍ من البلاد الإسلامية, حيث انتشرَتْ فيها".
انتهى كلامُ سماحةِ الشيخِ عبدِ العزيزِ بن بازٍ رحمَه اللهُ وأسكنَه فسيحَ جناتِه.
(رابعاً/ دعوةُ الإمام محمد بن عبد الوهاب هي دعوةُ الرسل والأنبياء والصحابة والأئمة المصلحين)
معاشرَ المؤمنين: يقولُ اللهُ جلَّ وعلا: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: من الآية36). هذه دعوةُ الرسلِ والأنبياءِ ومن سلكَ سبيلهم, إنها دعوةٌ واضحةٌ لا غموضَ فيها ولا لَبْس, دعوةٌ لإصلاحِ الخلقِ وتعظيمِ الخالقِ جلَّ وعلا, ولذا كان أولُها وآخرُها وأساسها: الدعوةُ إلى أعظمِ الواجباتِ وهو التوحيد, والتحذيرُ من أعظمِ الذنوبِ وهو الشركُ باللهِ جلَّ وعلا: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: من الآية36). وقد امتثلَ الرسلُ والأنبياءَ أمرَ ربِّهم, فدَعَوا أقوامَهم إلى التوحيدِ قبلَ كلِ شيء, بلا جُرِّدَتْ السيوف, وأُزْهِقَتْ الأرواح, وقامَ سوقُ الجنةِ والنارِ من أجلِ التوحيدِ ودحرِ الشركِ وأهلِه, قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: [أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ].
وها هو نبيُّ اللهِ نوحٌ عليهِ السلام يدعو قومَه إلى التوحيدِ ألفَ سنةٍ إلا خمسينَ عاماً, قال لهم: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) (نوح:3,2), فأبى ذلك عُبَّادُ الأصنامِ والأوثانِ والقبور, وسَعَوا في صدِّ الخلقِ عن توحيدِ ربِّ العالمين, حتى اشتكى منهم نبيُّ اللهِ نوحٌ قائلاً: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23,22,21), فالذي بين نوحٍ وقومِه أعظمُ من أن يكونَ نزاعاً حولَ مواقفَ سياسيةٍ أو اقتصادية, إنَّه الصراعُ بين التوحيدِ والشرك, بين الحقِّ والباطل.
ثمَّ سار الرسلُ والأنبياءُ من بعدِ نوحٍ على هذا الطريق, دعوةٌ إلى التوحيدِ وتعظيمِ ربِّ العالمين, وتحذيرٌ من الشركياتِ بأنواعها.
وآخرُهم النبيُّ المصطفى والرسولُ المجتبى الخليلُ محمدٌ صلى اللهُ عليه وسلم, لقد دعا إلى اللهِ جلَّ وعلا, وكان مبدأُ دعوتهِ ومنتهاها, ومجراها ومرساها, أنْ تكونَ العبادةُ خالصةً للهِ جلَّ وعلا, وأنْ لا يكونُ له نِدٌّ يُدعى أو يُرجى أو يُستغاثُ به, فها هو صلى الله عليه وسلَّم يُلقى القرآن من لدنْ حكيمٍ عليم, وفيه الآياتُ الآمرةُ بالإنذارِ والدعوةِ إلى التوحيد: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (المدثر:5,4,3,2,1).
لمَّا حضرَه الموتُ كان يُوصي أمتَه ويُحذرُها من وسائلِ الشرك, فكان صلى اللهً عليه وسلم يقول: [لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَخَذُوا قُبَورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ, يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا].
ولمَّا قال له رجلٌ: [ما شاءَ اللهُ وشئت], غضبَ الحبيبُ المصطفى صلى اللهُ عليه وسلم وقال: [أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدَّاً, بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ].
ولمَّا طلب منه بعضُ الناسِ أن يجعلَ لهم ذاتَ أنواطٍ ـ شجرةً يتبركون بها ـ أنكرَ ذلك وقال: [اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ, قُلْتُمْ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائيلَ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهاَ كَمَا لَهُمْ آلِهَة].
وكان صلى اللهُ عليه وسلم يُحَذِّرُ من الشركِ في القولِ والعمل, ومن ذلك قولُه صلى اللهُ عليه وسلم: [مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ], وقوله صلى اللهُ عليه وسلم: [مَنْ حَلَفَ بِالأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا], بل أمرَه ربُّه جلَّ وعلا أنْ يُعلنَ للناسِ أنَّ الأمرَ للهِ من قبلُ ومن بعدُ, وأنَّ تدبيرَ هذا الكون من خصائصِه جلَّ وعلا, قال اللهُ سبحانه وتعالى مخاطباً (*) نبيَّه محمداً صلى اللهُ عليه وسلم: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه) (الأعراف: من الآية188), وأوحى إليه ربُّه جلَّ وعلا قولَه: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الجـن:22,21), فالأمرُ للهِ من قبلُ ومن بعدُ.
ثم سارَ الخلفاءُ الراشدون والعلماءُ المصلحون والأئمةُ المهديون على ذلك فكانت العقيدة عندهم أهمَّ المهمات, ومواقفُهم في نصرةِ مذهبِ السلفِ والتحذيرِ من البدعِ وأهلها كثيرة, فهذا يدلُ على عظيمِ فهمِهم لدعوةِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم, إنها الدعوةُ إلى توحيدِ ربِّ العالمين.
فاللهم اسلكْ بنا سبيلَ نبيِّك محمدٍ صلى الله عليه وسلم, يا أكرمَ الأكرمين, ويا أرحمَ الراحمين, أقولُ هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم لسائرِ المؤمنين من كلِّ ذنبٍ فاستغفرُوه إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
(خامساً/ مميزات دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله)
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين, ولا عدوانَ إلا على الظالمين, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه ومن اقتفى أثرَه واستنَ بسنتِه إلى يومِ الدينِ, أما بعد:
ومن الدعواتِ السنيةِ السلفيةِ الإصلاحيةِ دعوةُ الإمامِ المجددِ محمدِ بنِ عبدِ الوهابِ ومن معه من العلماء والأمراءِ والمصلحين, فقد نفعَ اللهُ الخلقَ بهذه الدعوة, لأنها بُنِيَتْ وسارَتْ على طريقِ الأنبياء, دعوةٌ إلى توحيدِ اللهِ وتوقيرِه وتعظيمِه وعبادتِه, وتحذيرٌ من الشركِ والبدعةِ وأهلِهما, فآتَتْ هذه الدعوةُ أُكُلَها, وحفظَها اللهُ ورعاها, لأنها إنما قامَتْ لبيانِ مذهبِ السلف, وتصفيةِ الإسلامِ مما عَلِقَ به من البدعِ والخرافاتِ والشركيات.