قبل سنوات وفي إحدى القرى النائية بمنطقة حائل .. كان هناك بيتا متواضعا بضم في أكنافه أسرة سعيدة .. زوج وزوجة وسبعة أطفال أبرياء سعداء ! ..
وفي إحدى الأيام دخل رب البيت بعد صلاة الظهر فبادر بمداعبة زوجته على غير عادته فما كان أمام الزوجة إلا أن تشاطر زوجها مبتهجة بالحنان ! ..
وبعد دقائق من الكلام المعسول سأل الرجل زوجته بلطف وابتسامة عريضة : أين حلي زواجك ! ..
فردت الزوجة : لم يبق منه سوى القليل .. لقد بعت معظمه لحاجة أبنائنا وبيتنا ! ..
فرد الزوج على عجل : خليني أشوف ما تبقى منه لقد نويت أن أبدله لك بأفخر وأفخم ما في أسواقنا ! ..
لم يكن أمام الزوجة إلا أن تفر مشدوهة إلى غرفتها وتحضر له حقيبة بقايا إرث زواجها ! ..
طالع الرجل داخل حقيبة سلع زوجته .. فقال : هذه قليلة وقديمة .. هيا بنا يا حبيتي إلى مدينة حائل لقد قررت تجديده بأفخر وأكثر منه ! ..
لم تصدق المسكينة ما سمعت فركضت وسرعان ما وضعت الشيلة والعباءة فوق رأسها وقالت : يا لله بنا ! ..
ركبت معه السيارة وذهبا إلى مدينة حائل إلى سوق الذهب هناك .. فباعت كل ما تبقى من مهرها ثم عوز الرجل قيمة ذهبها المباع بأضعاف المبلغ وتركها تختار أطقم وحلي وأساور وقلائد ذهب وغيرها ! .. كانت المرأة تلح على زوجها الاكتفاء بالقليل تقديرا لحالته المادية إلا أنه أصر على الوفاء بوعده فأشترى مالا تتوقعه ! ..
إثناء العودة لقريتهم النائية كانت الزوجة شبه مذهولة ! .. تارة تحدث زوجها عن شكرها وحبها له وتارة تنغمس في أفكار متى وفي أي زواج ستلبس حليها الجديد وماذا ستقول لنساء قريتها حينما تتحلى بذهبها الجديد ! ..
عندما وصلا منزلهما .. حمل الزوج حقيبة الذهب .. وعند مدخل الباب ألتفت فجأة إلى زوجته وقال مكشرا : يا مره تري هذا الذهب ما هو لك .. تريه لزوجني الجديدة ! ..
صعقت المرأة ولم تصدق ما سمعت .. فقالت مذهولة : بس أنا بعت ذهبي عشان تبدله لي .. فأكيد أنك تمزح ! ..
رد الزوج زاجرا : لا .. لا أمزح .. قلت لك أن هذه الحقيبة لزوجتي الجديدة وأنتي تريك طالق ! ..
في أقل من ثانية دارت الدنيا برأس المنكوبة .. ثم سقطت في حالة غيبوبة مغشيا عليها ! ..
أسرع الزوج إلى أخفاء الحقيبة داخل غرفته ثم أقفل باب الغرفة .. بعدها عاد إلى زوجته وحملها إلى سيارته ثم نقلها إلى أقرب مركز رعاية صحية حول قريته ..
نقل المركز بسيارة إسعافه المرأة المنكوبة وهي في حالة غيبوبة تامة إلى مستشفى الملك خالد بحائل ..
وبعد الفحص السريري بقسم الإسعاف أدخلت فورا إلى قسم العناية المركزة ..
ظلت بالعناية المركزة أسابيع وبعدما استقرت حالتها أخرجت إلى غرفة مشتركة بقسم الباطنة داخل المستشفى ..
أثارت حالتها الغيبوبة وعدم وجود مرافقة أو حتى زوار لها إحدى الفاضلات المنومات بنفس الغرفة فأمرت خادمتها المرافقة بملاحظة المنكوبة ! ..
وعندما قرر المستشفى خروج الفاضلة .. تركت الفاضلة خادمتها إلى جانب المنكوبة لتلاحظها وتدبر شئونها حتى يكتب لها الله أما الحياة أو الموت ! ..
ظلت المنكوبة ستة أشهر كاملة وهي في حالة غيبوبة تامة ترافقها خادمة الفاضلة ! ..
تقول الخادمة : لم يزر المنكوبة طوال فترة غيبوبتها سوى شاب واحد كان يزورها بين حين وأخر دون أن ينبس ببنت شفه وذات مرة جاءت معه شابة ثم اختفى فجأة ولم يعد يزورها ! ..
بعد نصف سنة بدأت المنكوبة تسترد صحتها وعافيتها شيئا فشيئا وعندما استردت كامل وعيها أخذت تسأل الممرضات والمريضات التي حولها عن أبنائها وأهلها وربعها وحالتها ! ..
فأخبروها بأنهم لا يعرفوا شيئا عنهم ولم يسأل أحد عنها ولا حتى عن قصتها غير أنها أدخلت المستشفى وهي في حالة غيبوبة وظلت على حالتها أكثر من ستة أشهر ! ..
بعدما طال انتظار المنكوبة وهي تترقب باب غرفتها .. بدأت تسرد قصتها على من حولها من ممرضات ومريضات وأخر علمها بأهلها ! ..
انتشرت القصة بمدينة حائل وبدأت نساء حائل يزرنها ويقدمن لها المواساة والعون من مأكل ومشرب وملبس وأغدقن غرفتها بأكاليل الزهور ..
ظلت المرأة المنكوبة بالمستشفى سنوات عدة وهي تندب حظها وعيشتها الوحيدة كانت هواجسها ودمعتها ..
وحتى هذه اللحظة لا أدري هل هي بالمستشفى أم خرجت فأخر علمي بها كان العام الماضي عندما زارتها عجوز لنا ! ..
بعد خمس سنوات من الغبن والقهر والحرمان .. أطلقت المنكوبة صرخة مدوية من داخل أروقة المستشفى جسدتها بقصيدة مؤلمة موجعة للنفس تتوجد بها على دارها وأطفالها حتى أصبحت القصيدة تردد على لسان كل من في المستشفى .. تقول في قصيدتها :
تكفـين يا طـيور حـرار أفزعـلي ..... أبي عن أديار الأهـل منك الأخـبار
تكفـين حومي فوقـهم وارجعي لي ..... وإلا إن حصل لك حومـة داخل الدار
تكفـين حـول أبيوتهــم دوري لي .... سـبعة فروخ يوم أخـليهم صــغار
شوفي ضـناي وعـودي أنكـفي لي ..... وشلونهم يا علهم صــاروا كـبار
نسيوا دفـاي ونومهـم في شـليلي ..... وش علمهم يا علهم طـول الأعمـار
قولي لهـم أن أمكـم له عــويلي ..... خمسـة سنين دمعـها دوم مــدرار
وقـولي لهـم أني على طـول ليلي ..... أنوح وليـا قـرب الصـبح النهـار
وقـولي عـيونه دايم له همــيلي ..... تبكـي ليا شافـت من النـاس زوار
كل يوم أقول اغدي حـديهم يجي لي ..... راحـت سنين ما بهم واحـــد زار
وأنا اللي من سبـة سـوات الحليلي ..... حـالي تردت كــل ماله وتنهــار
و فرقى ضـناي اللي تردت بحـيلي ..... كني على شوفـتهم أصـلى على نار
يا ويـلي كان الله عجـل رحــيلي ..... وأنـا اللي سـنين أبي لوهي أخـبار
يا عـونة الله الله من يبي يتكـي لي ..... جـارت علي بأمر الولي كل الأقـدار
تنكـروا مـن يدخـلون الدخــيلي ..... واللي بوسـط ديارهم يا من الجـار
قولي لهم يا طـيور قـلبي عـليلي ..... الله يكـافئ قـلوبهم صارت أحجـار
وأنـا اللي لبراق الخـيال أسـتخيلي ..... وأقـول يا عـل ( ..... ) للأمطـار
تكفـين وسـط ديارهـم صـوتي لي ..... شوفي عسى لاسمي مع الناس تذكار
وقـولي لمـن نسـيانهم يسـتحيلي ..... يا اللي نسـيتوها ترى الوقـت دوار
يا هـيه يا للي بالسمـالك هــديلي ..... ردي خـبر تكفـين يكفـيني أمـرار
شـوفي أكالّّي نومهــم في شـليلي ..... من أذانه المغـرب إلى وقت الأسحار
شوفـي أكلّي ما أهـتني في مقـيلي ..... إلا بمقـيل معهـم كــبار وصـغار
وقولي لهـم إن كان حمـلي ثقـيلي ..... مره يجـون وعقبـها شي ما صـار
وأنـا يتـولاني كـــريم جــليلي ..... يا عـلني في جـنته وسـط الأبـرار
العرض العادي
