كانت عاصفة أخرى قد هبت في هذا الصباح ،تاركة مقصورتي غارقة في شبر من الماء ، اما الآن فإن جرذاً مازال يخربش بين كتبي المبتلة.وهناك رائحة منتنة تصدر عن اشياء مخبأة.اليوميات التي بدأت بكتابتها لدى إقلاعنا في شهر أكتوبر الماضي دمرت .وقد بدأت بكتابة يوميات جديدة ... وهذا أولها.
تحت وطأة الشعور بالجوع القاتل، تناولت البرتقال فقط، ومعه ملعقة صغيرة من نبات الآروت الذي آكله كل صباح ( لقد التهمت البرتقالات الخمسة الأخيرة فقط الموجودة في العالم الجاثمة أمام باب مقصورتي المحكم الإغلاق،خوفاً من أن يأخذها مني أحدهم ). وطوال اثنين وسبعين يوماً لم نر الأرض، ولا أية سفينة أخرى ـ ولاحتى وحشاً بحرياً ـ. لاتوجد لدينا قهوة،ولابسكويت، ولامربى، ولاشراب.
هنري ليس مريضاً.. فهو يأكل كل ما يتبقى من الطعام ويتناول العشاء مرة أخرى مع البحارة. سمعت بأنهم قد أغرموا به. وهاريت ليست مريضة..ولفرط دهشتي،لم تبد لي في حال أفضل مما هي عليه الآن. ابن عمي لافاييت، بحار جيد بلا شك. هنري اقنع طاقم السفينة بأن يشدوه إلى السارية ثم يغطسوه في ماء البحر بمناسبة حلول ذكرى عيد ميلاده الخامس والعشرين. وهو يمضي معظم أوقاته مع النساء،خاصة الآنسة هيوود الجميلة...يريد أن يحسن أداءها في لعبة الورق.فرولك مثل هاريت،تستمتع بوقتها.الكلب لديه شخصياً نافذة صغيرة مثبتة في الشبكة، حيث يستريح ويطلق أنيناً غريباً ناجم عن شعوره بالبهجة لدى مشاهدته الزبد.
كان من الأفضل لهم أن يرسلونا إلى بوتاني باي على ظهر سفينة مليئة باللصوص الآيرلنديين بدلاً من هذه! لأننا كنا سنستمتع بوقوع جريمة صغيرة على الأقل. على ظهر السفينة جوبيتر، 4 فبراير 1836.
لايمكنني أن أتصور الأمور بالنسبة للركاب الذين يقيمون في السفل، المحشورين بإتقان جنباً إلى جنب مع الجبن والقبعات المحملة للبيع التي يخزنها القبطان في المخازن الأبواب مغلقة لكي لاتغمرها المياه.عويل الأربعة والثمانين كلباً من كلاب قائد الجيش الويلزية يتوقف. شلو من البحارة - الذين كانوا قد أجهزوا على كل الدواجن الموجودة بحوزتنا قبل مغادرتنا نهر التايمز ـ تثير الإزعاج صعوداً وهبوطاً بالجزم الجديدة ذات المسامير الغليظة الرؤوس، المدوية على نحو يفوق دوي البراميل المتدحرجة فوق سطح السفينة. (نشعر بالغبطة لأن أفراد الطاقم حفاة.) خادمة هاريت جونز تعاني من اضطراب شديد حتى أن ذلك حمل الدكتور دراموند على شدها إلى كرسي.
شراعان أخذتهما العاصفة وفقد عازف بيانو ألماني سكير متجه إلى سيلان في اثناء الرحلة. يقول هنري ان ذلك مؤسف جداً، لأن من المتعذر العثور على عازفي بيانو في الشرق. ورغم أن تجمعاً من أجل الدعاء له كان قد عقد على السطح بعد الغروب إلا أنني لم أقدر على حمل نفسي على حضوره.
ملاآتي متيبسة بفعل الدماء ؛ خصلات شعري مثقلة بالملح.لاتوجد لدي ثياب نظيفة بجامتي شديدة القذارة،ألقيت بها من كوة السفينة وراقبتها وهي تتلاشى في صفرة السماء القذرة.
على ظهر السفينة جوبيتر، 5 فبراير 1836.
أنام عندما يستبد بي الشعور بالإرهاق ولا أتمكن من مغالبته...حتى طنين الحشرات لايحملني على الإستيقاظ، ولا نشيد البحارة «نتمنى من الله أن يغرق السفينة»، ولا أزيز الحواجز الفاصلة بين المقصورات في اثناء تشققها وانقسامها إلى أجزاء منفصلة.
على ظهر السفينة جوبيتر،8 فبراير 1836.
مهما رفعت عقيرتي بالصياح، فإن أحد لايمكنه أن يسمعني.
على ظهر السفينة جوبيتر، 12 فبراير 1836.
أشعر بتحسن الآن.الجو شديد الحرارة الآن فقد عبرنا خط الإستواء، لا أرتدي تحت الروب سوى سترة قصيرة من الموسيلين ( بوصولنا إلى ريودي جانيرو،توقفت عن لبس الجوارب وتصفيف شعري..) خادمتي براندت تشعر بالإستياء لرفضي إغلاق صندوق مجوهراتي، تحسباً لأي لحظة نكون فيها مجبرين على الظهور بنفس الطريقة التي يظهر فيها على بابا( لم تنس على الإطلاق أن والدتي، التي سافرت ذات يوم إلى سوريا، تراءت لها أسفل الدرج وهي ترتدي سروالاً دمشقياً وتشد إلى خصرها خنجراً مرصعاً بالأحجار الثمينة) غير أنها تبدو منهمكة جداً بالعراك مع الخادمة الخلاسية الجديدة، روزينا، إلى حد يبعدني عن الجلبة.
إن هاريت، فتاة مطيعة إلى درجة أنها تحافظ على حميتها الغذائية وهي تشعر ببالغ السرور، ترتدي المشد بلا تذمر،تجدل خصلات شعرها مرة بعد الأخرى محيلة إياها إلى لفافتين أنيقتين، ترشرش الماء المالح الذي يتنافس صغار الموظفين على إحضاره لها خلسة.أشعر بالقلق من أن شقيقتي ستواجه أوقاتاً صعبة لدى وصولنا.
إن الحياة على ظهر السفينة كما تصر على أن تذكرني بذلك براندت،فيما هي ليست جنة بالنسبة للجميع،إلا انه لايمكن مقارنتها بما ينتظرنا.
العرض العادي
