كتب هذه الدراسة الدكتور / محمد إبراهيم نصر
وقد وجدتها في كتابه من عيون الشعر ( اللاميات )
بين القصيدتين صلات مشتركة تدفع إلى إلقاء هذه الظلال بعيداً عن الغلو والإفراط كما ظهر ذلك في بعض الدراسات حتى فقدت طابع اليسر والسماحة .
البعد عن الأهل والإحساس بالغربة :
كلا الشاعرين بعيد عن أهله ، ناءٍ عن أصدقائه ، ولكن كلاً منهما يستقبل النأي والغربة استقبالاً مختلفاً تماماً .
فالشنفرى صلب الإرادة ، قوي النفس ، ماضي العزم ، يتخذ أهلاً له جدداً من الوحوش المفترسة ، فأصدقاؤه : الذئاب والنمور والضباع والحيات ، استمع إليه يقول :
لَعَمْرُكَ ، ما بالأرض ضـــــــــــــــيقٌ على أمرئٍ
سَـــــــــــــــــــــرَى راغباً أو راهباً ، وهو يعقلُ
أما الطغرائي :
فرقيق الحاشية ، واهي العزم، فما إقامته ببغداد وليس له فيها صديق يشكو إليه حزنه ويزف إليه فرحه ، إلى دليل على ذلك ، ولذلك يقول :
فيم الإقامةُ بالزوراءِ لا سَـــــــــــــــــــــــــكنِي
بها ولا ناقــــــــــــــــــــــــــتي فيها ولا جملي
ناءٍ عن الأهلِ صِـــــــــــفر الكف مُنفـــــــــــــردٌ
كالســــــــــــــــــــــيفِ عُرِّي مَتناه عن الخلل
فلا صـــــــــــــــــــــــديقَ إليه مشتكى حَزَني
ولا أنيسَ إليه مُنتهى جــــــــــــــــــــــــــذلي
فتجد في حديثه رنة الأسى ، ونبرة الحزن ، وضعف النفس متمثلاً في قوله ناءٍ عن الأهل ، صفر الكف ، منفرد ، فلا صديق أبثه حزني ، ولا أنيس أخلو إليه من وحدتي ، فالرجل لايقوى على مثل هذه المواقف كما يقوى عليها الشنفرى الذي يقرر حقائق وَطَّن نفسه عليها
وفي الأرض مَنْأىً ، للكـــــــــــريم ، عن الأذى
وفيها ، لمن خــــــــــــــــــاف القِلى ، مُتعزَّلُ
ثم يقسم على ذلك ويجد البديل عن الأهل في هذه الوحوش التي أنس إليها وأنست إليه .
والشنفرى :
يستعيض عن فقد من لم يجد فيهم خيراً وليس في صحبتهم نفع بثلاثة أصحاب ، هم قلبه الشجاع الجسور ، وسيفه الصقيل ، وقوسه الصفراء المتينة .
وإني كفــــــــاني فَقْدُ من ليس جـــــــــــــازياً
بِحُســـــــــــــــــــــــنى ، ولا في قـربه مُتَعَلَّلُ
أما الطغرائي :
فإنه يقصد من يعوضه عن الأهل والأصدقاء لأن له هدفاً هو بسطة الكف ، وسعة العيش ، يستعين به على ما يريده من الوصول إلى العلا والرفعة ، ولكن الدهر يعاكسه ، ويقف في طريقه ، فيرضى من الغنيمة بالإياب :
أريدُ بســـــــــطـــــــــةَ كفٍ أســـــــــتعين بها
على قــــضــــاء حـــقـــوقٍ للعـــلى قِــبَــلــي
والدهــــــــر يعكــــــــــــــــس آمالي ويُقنعني
من الغــــــنيمة بعد الكـــــــــــــدِّ بالقــــفــــلِ
والشكوى ، والتودد ، ومحاولة الاستمالة للحصول على مطلوبه ، كل ذلك واضح في قوله :
فقلتُ : أدعــــــــــــــــــــــوك للجلَّى لتنصرني
وأنت تخذلني في الحــــــــــــــــــــادث الجللِ
وكل منهما يذكر المرأة في لاميته غير أن منهج كل واحد منهما مختلف عن الآخر ، فالشنفرى ليس رجلاً جباناً قعيد منزله ، لاجئاً عند زوجته يشاورها في كل الأمور بل هو شجاع تعلو نفسه عن الركون إلى المرأة ، ولايقصد إليها . فهو ليس رجلاً قليل الخير ، لايفارق داره ، يصبح ويمسي جالساً إلى النساء لمحادثتهن يدهن ويتكحل كأنه منهن :
ولســــــــــــــــــــتُ بمهيافِ ، يُعَشِّى سَوامهُ
مُــــجَـــــــــدَعَةً سُــــــــــــقبانها ، وهي بُهَّلُ
ولا جبأ أكهى مُرِبِّ بعرسـِـــــــــــــــــــــــــــــهِ
يُطـــــــــــــالعها في شــــــــــــأنه كيف يفعـلُ
أما الطغرائي :
فإن نفح الطيب المنبعث من المرأة يهديه في طريقه ، ويجذبه إليه فيدعو صاحبه أن يحث السير إليها ، وحب النساء يصمي قلبه ، وعيونهن النجلاوات ينفذن إلى شغاف نفسه ، فيقع أسيراً لهن
فســـــــــر بنا في ذِمام الليل معتسِـــــــــفـاً
فنفخةُ الطيبِ تهـــــــــــــــــــــدينا إلى الحللِ
تبيتُ نار الهــــــــــــــــــــــــوى منهن في كبدِ
حــــــــــرَّى ونار القـــــــرى منهم على القُللِ
يَقْتُلْنَ أنضـــــــــــــــــــــــــاءَ حُبِّ لا حِراك بهم
وينحـــــــــــــــــرون كِـــــــــــرام الخيل والإبلِ
لا أكـــــــــــــــــــرهُ الطعنة النجلاء قد شفِعت
برشــــــــــــــــــــــــقةٍ من نبال الأعين النُّجلِ
وكل منهما يدعو إلى المعالي ويتمرد على الذل ، فالشنفرى يرتكب الصعب من الأمور ، فيقاوم الجوع حتى ينساه ، ويذهل عنه ، ولو أدى به الحال إلى أن يستف التراب حتى لا يرى لأحدِ فضلاً عليه فنفسه مرة لا تقيم على الضيم ، ولا ترضى به مهما كانت الأمور :
أُدِيمُ مِطالَ الجــــــــــــــــــــــــوعِ حتى أُمِيتهُ ،
وأضربُ عنه الذِّكرَ صـــــــــــــــــــفحاً ، فأذهَلُ
وأســــــــــــــــــتفُّ تُرب الأرضِ كي لا يرى لهُ
عَليَّ ، من الطَّــــــــــــــــــــــوْلِ ، امرُؤ مُتطوِّلُ
ولكنَّ نفســـــــــــــــــــــــــــــاً مُرةً لا تقيمُ بي
على الضــــــــــــــــــــــــــيم ، إلا ريثما أتحولُ
أما الطغرائي : فيرى أن حب السلامة يثني همم الضعفاء فيغريهم بالكسل والخمول ، ويدفعهم إلى تجنب المغامرات ، والبعد عن الأهوال ، والإنزواء عن الناس . وأما المعالي فإنها تدعو صاحبها إلى المغامرة وركوب الأخطار :
حبُّ الســـــــــــــــــــــــلامةِ يثني هم صاحبهِ
عن المعالي ويغري المرء بالكســـــــــــــــــلِ
فإن جــــنــــحــــتَ إليه فـــاتـــخـــذ نــفــقـــاً
في الأرض أو ســــلماً في الجـــــــــوِّ فاعتزلِ
يرضى الذليلُ بخفض العيشِ مســـــــــــــكنهُ
والعِـــــــــــــــزُّ عند رســــــــــيم الأينق الذّلُلِ
****
وكل منهما لا يرضى بالإقامة ولكن مطلب كلٍ منهما مختلف ، فالشنفرى طريد جنايات ارتكبها ، يتوقع أن تنقض عليه ، فهو هارب من وجه الساعين إلى دمه ، ينام بعيون يقظى ، فلا يضع جنبه على وجه الأرض حتى تعاوده الهموم من كل جانب ، وقد اعتاد هذه الهموم وألفها ، ولذلك يقول :
وآلف وجه الأرض عند افتراشـــــــــــــــــــــها
بأهـْــــــــدَأ تُنبيه سَــــناسِـــــنُ قُــحَّــــــــلُ ؛
مُلكُ القـــنـــاعــــةِ لا يُخــــشـــــــى عليه ولا
يُحتاجُ فيه إلى الأنصــــــــــــــــــــــــار والخَولِ
خلاصة :
والواقع أن الحكم المنتشرة في لامية الشنفرى منتظمة ضمن ذلك العقد الذي ينتظم قصيدته ، وضمن تجربته في الحياة ، إنها فرائد منها مرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً قوياً محكماً .
أما فرائد الطغرائي ، فمتناثرة في قصيدته ، والرابط بينها ليس من الإحكام والقوة التي ظهرت في لامية الشنفرى فقد جاءت مرتبطة حيناً بتجاربه في الحياة ، ومرارة العيش التي يشكو منها ، وأحياناً يضعف ذلك الخيط الذي يربطها فيبدو واهياً ضعيفاً ، وتبدو متراصة بعضها بجوار بعض في معزل عن تلك التجارب .