قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : كل مؤمن مكلف بالتوقف و التفتيش عند حضور الأقسام عن التناول و الأخذ، حتى يشهد له الحكم بالإجابة، و العلم بالقسمة، و المؤمن فتاش و المنافق لقاف. و قال صلى الله عليه و سلم ( المؤمن وقاف ) و قال صلى الله عليه و سلم : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) فالمؤمن يقف عند كل قسم من مأكول و مشروب و ملبوس و منكوح و سائر الأشياء التي تفتح له فلا يأخذ حتى يحكم له بجواز الأخذ و التناول كحكمه إذا كان في حالة التقوى. أو حتى يحكم له بذلك الأمر إذا كان في حالة الولاية. أو حتى يحكم العلم في حالة البدلية و الغوثية، و الفعل الذي هو القدر المحض و هي حالة الفناء، ثم تأتيه حالة أخرى تتناول كل ما يأتيه و يفتح له ما لم يعترض عليه الحكم والأمر والعلم، فإذا اعترض أحد هذه الأشياء امتنع من التناول، فهي ضد الأولى.
ففي الأولى الغالب عليه التوقف و التثبت. و في الثانية الغالب عليه التناول و الأخذ و التلبس بالفتوح. ثم تأتى الحالة الثالثة.
فالتناول المحض و التلبس بما يفتح من النعم من غير اعتراض أحد الأشياء الثلاثة و هي حقيقة الفناء، فيكون المؤمن فيها محفوظاً من الآفات وخرق حدود الشرع مصاناً مصروفاً عنه الأسواء، كما قال الله تعالى : }كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ{.يوسف24. فيصير العبد مع الحفظ عن خرق الحدود كالمقرض إليه المأذون له و المطلق له في الإباحات الميسر له الخير، ما يأتيه قسمه المصفى له من الآفات و التبعات في الدنيا و الآخرة، و الموافق لإرادة الحق و رضاه و فعله و لا حالة فوقها و هي الغاية، و هي السادة الأولياء الكبار الخلص أصحاب الأسرار، الذين أشرفوا على عتبة أحوال الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
فـي الـمـحـبـة و الـمـحـبـوب و مـا يـجـب فـي حـقـهـمـا
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : ما أكثر ما يقول المؤمن قرب فلان و بعدت، وأعطى فلان و حرمت، وأغنى فلان و أفقرت و وفى فلان و أسقمت، و عظم فلان و حقرت، و حمد فلان و ذممت، و صدق فلان و كذبت. أما يعلم أنه الواحد. وأن الواحد يحب الوحدانية في المحبة، و يحب الواحد في محبته.
إذا قربك بطريق غيره نقصت محبتك له عز و جل و شعبت فربما دخلك الميل إلى من ظهرت المواصلة و النعمة على يديه، فتنقص محبة الله في قلبك، و هو عز و جل غيور لا يحب شريكه فكف أيدي الغير عنك بالمواصلة و لسانه عن حمدك و ثنائك و رجليه عن السعي إليك كيلا تشتغل به عنه، أما سمعت قول النبي صلى الله عليه و سلم : ( جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ) فهو عز و جل يكف الخلق عن الإحسان إليك من كل وجه و سبب حتى توحده و تحبه، و تصير له من كل وجه بظاهرك و باطنك في حركاتك و سكناتك، فلا ترى الخير إلا منه و لا الشر إلا منه عز و جل ، و تفنى عن الخلق و عن النفس، و عن الهوى و الإرادة و المنى، و عن جميع ما سوى المولى، ثم يطلق الأيدي إليك بالبسط و البذل و العطاء، و الألسن بالحمد و الثناء فيدلك ابداً في الدنيا ثم في العقبى، فلا تسئ الأدب، انظر إلى من ينظر إليك، و اقبل على من أقبل إليك، و أحب من يحبك و استجب من يدعوك و أعط يدك من يثبتك من سقطك و يخرجك من ظلمات جهلك، و ينجيك من هلكك و يغسلك من نجاسك، و ينظفك من أوسخاك، و يخلصك من جيفك و نتنك، و من أوهامك الردية، و من نفسك الأمارة بالسوء و أقرانك الضلال المضلين شياطنيك، و أخلائك الجهال قطاع طريق الحق الحائلين بينك و بين كل نفيس و ثمين و عزيز.
إلى متى المعاد، إلى متى الحق، إلى متى الهوى، إلى متى الرعونة، إلى متى الدنيا، إلى متى الآخرة، إلى متى سوى المولى؟ أين أنت من خالقك و الأشياء، و المكون الأول الآخر الظاهر الباطن، و المرجع و المصدر إليه، و له القلوب و طمأنينة الأرواح و محط الأثقال و العطاء و الامتنان، عز شأنه.
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : رأيت في المنام كأني أقول يا مشرك بربه في باطنه بنفسه و في ظاهره بخلقه و في عمله بإرادته، فقال رجل إلى جنبي ما هذا الكلام، فقلت هذا نوع من أنواع المعرفة.
فــي الـمـوت الذي لا حـيـاة فـيـه و الـحـيـاة الـتـي لا مـوت فـيـهـا
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : ضاق أبى الأمر يوماً فتحرك في النفس، فقيل لي : ماذا تريد؟؟ فقلت: أريد موتاً لا حياة فيه و حياة لا موت فيها؟؟ فقيل لي: ما الموت الذي لا حياة فيه و ما الحياة التي لا موت فيها؟؟ قلت:
الموت الذي لا حياة فيه موتى عن جنسي من الخلق فلا أراهم في الضر و النفع، و موتى عن نفسي و هوائي و إرادتي و منائى في الدنيا و الأخرى فلا أحس في جميع ذلك و لا أجد.
و أما الحياة التي لا موت فيها: فحياتي بفعل ربى عزّ و جلّ بلا وجودي فيه، و الموت في ذلك وجودي معه عزّ و جلّ، فـكـانـت هـذه الإرادة أنـفـس إرادة أردتـهـا مـنـذ عـقـلـت.
فـي الـنـهـي عـن الـتـســخـط عـلـى الله فـي تـأخـيـر إجـابـة الـدعـاء
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : ما هذا التسخط على ربك عزَّ و جلّ من تأخير إجابة الدعاء؟؟ تقول حرم على السؤال للخلق و أوجب على السؤال و أنا أدعوه و هو لا يجبيبنى فيقال لك أحر أنت أم عبد فإن قلت أنا حر فأنت كافر وغن قلت أنا عبد لله، فيقال لك أمتهم أنت لوليك في تأخير إجابة دعائك و شاك في حكمته و رحمته بك و بجميع خلقه وعلمه بأحوالهم أو غير متهم له عزَّ و جلّ ؟؟ فإن كنت غير متهم له و مقر بحكمته و إرادته و مصلحته لك و تأخير ذلك فعليك بالشكر له عزَّ و جلّ، لأنه اختار لك الأصلح و النعمة و دفع الفساد، و إن كنت متهماً له في ذلك فأنت كافر بتهمتك له، لأنك بذلك نسبت له الظلم و هو ليس بظلام للعبيد، لا يقبل الظلم و يستحيل عليه أن يظلم إذ هو مالكك و مالك كل شئ فلا يطلق عليه اسم الظالم، و إنما الظالم من يتصرف في ملك غيره بغير إذنه فانسد عليك سبيل التسخط عليه في فعله فيك بما يخالف طبعك و شهوة نفسك و إن كان في الظاهر مفسدة لك.
فعليك بالشكر و الصبر و الموافقة، و ترك السخط و التهمة و القيام مع رعونة النفس و هواها الذي يضل عن سبيل الله.
وعليك بدوام الدعاء و صدق الالتجاء، و حسن الظن بربك عزَّ و جلّ، و انتظار الفرج منه، و التصديق بوعده، و الحياء منه، و الموافقة لأمره، و حفظ توحيده و المسارعة إلى أداء أوامره، و التماوت عن نزول قدره بك و بفعله فيك، و إن كان لابد أن تتهم و تسئ الظن فنفسك الأمارة بالسوء العاصية لربها عزَّ و جلَّ أولى بهما، و نسبتك الظلم إليها أحرى من مولاك. فاحذر موافقتها و موالاتها، و الرضى بفعلها و كلامها في الأحوال كلها، لأنها عدوة الله و عدوتك، و موالية لعدو الله و عدوك الشيطان الرجيم، هي خليلته و جاسوسته و مصافيته، الله الله ثم الله، الحذر الحذر النجا النجا، أتهمها و أنسب الظلم إليها و اقرأ عليها قوله عزَّ و جلّ : }مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ{.النساء147. وقوله عزَّ و جلّ : }إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ{.يونس44. و غيرها من الآيات و الأخبار.
كن مخاصماً لله على نفسك مجادلاً لها عنه عزَّ و جلّ، و محارباً و سيافاً و صاحب جنده و عسكره، فإنها أعدى عدو الله عزَّ و جلّ، قال الله تعالى : " يا داود أهجر هواك فإنه لا منازع ينازعني في ملكي غير الهوى ".
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : لا تقل لا أدعو الله، فإن كان ما أسأله مقسوماً فسيأتي إن سألته أو لم أسأله، و إن كان غير مقسوم فلا يعطيني بسؤال، بل اسأله عزَّ و جلَّ جميع ما تريد و تحتاج إليه من خير الدنيا و الآخرة ما لم يكن فيه محرم و مفسدة لأن الله تعالى أمر بالسؤال له و حث عليه. قال تعالى : }ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ{.غافر60. و قال عزَّ و جلَّ : }وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}{ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ{.النساء32. قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اسألوا الله و أنتم موقنون بالإجابة ) و قال صلى الله عليه وسلم : ( اسألوا الله ببطون أكفكم ) و غير ذلك من الأخبار. و لا تقل إني أسأله فلا يعطيني فإذا لا أسأله، بل دم على دعائه، فإن كان ذلك مقسوماً ساقه إليك بعد أن تسأله، فيزيد ذلك إيماناً و يقيناً و توحيداً و ترك سؤال الخلق و الرجوع إليه في جميع أحوالك و إنزال حوائجك به عزَّ و جلَّ ، و إن لم يكن مقسوماً لك أعطاك الغناء عنه و الرضا عنه عزَّ و جلَّ بالقصص. فإن كان فقراً أو مرضاً أرضاك بهما و إن كان ديناً قلب الدائن من سوء المطالبة إلى الرفق و التأخير و التسهيل إلى حين ميسرتك أو إسقاطه عنك أو نقصه، فإن لم يسقط و لم يترك منه في الدنيا أعطاك عزَّ و جلَّ ثواباً جزيلاً ما لم يعطك بسؤالك في الدنيا، لأنه كريم غنى رحيم، فلا يخيب سائله في الدنيا و الآخرة فلابد من فائدة، و نائلة إما عاجلاً و إما آجلاً فقد جاء في الحديث: ( المؤمن يرى في صحيفته يوم القيامة حسنات لم يعملها و لم يدر بها فيقال له أتعرفها ؟ فيقول ما أعرفها من أين لي هذه ؟ فيقال له إنها بدل مسألتك التي سألتها في دار الدنيا ) و ذلك أنه بسؤال الله عزَّ و جلَّ يكون ذاكراً الله و موحداً و واضع الشئ في موضعه، و معطي الحق أهله، و متبرئاً من حوله و قوته، و تاركاً للتكبر و التعظيم و الأنفة، و جميع ذلك أعمال صالحة ثوابها عند الله عزَّ و جلَّ.
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : كلما جاهدت نفسك و غلبتها و قتلتها بسيف المخالفة أحياها الله، و نازعتك و طلبت منك الشهوات و اللذات الجناح منها و المباح، لتعود إلى المجاهدة ليكتب لك ثواباً دائماً، و هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) أراد مجاهدة النفس لدوامها و استمرارها على الشهوات و اللذات، و إنهماكها في المعاصي، و هو معنى قوله عزَّ و جلَّ : }وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ{.الحجر99. أمر الله عزَّ و جلَّ لنبيه صلى الله عليه وسلم بالعبادة و هي مخالفة النفس، لأن العبادة كلها تأباها النفس و تريد ضدها إلى أن يأتيه اليقين يعنى الموت.
فإن قيل : كيف تأبى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم العبادة و هو عليه والصلاة و السلام لا هوى له }وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{.النجم3–4. فيقال أنه عزَّ و جلَّ خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ليتقرر به الشرع فيكون عاماً بين أمته إلى أن تقوم الساعة. ثم إن الله عزَّ و جلَّ أعطى نبيه عليه الصلاة و السلام القوة على النفس و الهوى، كيلا يضراه و يحوجاه إلى المجاهدة، بخلاف أمته، فإذا دام المؤمن على هذه المجاهدة إلى أن يأتيه الموت و يلحق بربه عزَّ و جلَّ بسيف مسلول ملطخ بدم النفس و الهوى أعطاه ما ضمن له من الجنة، لقوله عزَّ و جلَّ : }وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى{.النتزعات40–41. فإذا أدخله الجنة و جعلها داره و مقره و مصيره، أمن من التحويل عنها و الانتقال إلى غيرها و العودة إلى دار الدنيا جدد له كل يوم و كل ساعة من أنواع النعيم و تغير عليه أنواع الحال و الحلى إلى ما لا نهاية و لا غاية و لا نفاد، كما جدد في الدنيا كل يوم و كل ساعة و لحظة مجاهدة النفس و الهوى.
و أما الكافر و المنافق و العاصي لما تركوا مجاهدة النفس و الهوى في الدنيا و تابعوها، و وافقوا الشيطان تمرجوا في أنواع المعاصي من الكفر و الشرك و ما دونهما حتى أتاهم الموت من غير الإسلام و التوبة، أدخلهم الله النار التي أعدت للكافرين في قوله عزَّ و جلَّ : }وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ{.آل عمران131. فإذا أدخلهم فيها و جعلها مقرهم و صيرهم، فأحرقت جلودهم و لحومهم جدد لهم عزَّ و جلَّ جلوداً و لحوماً كما قال عزَّ و جلَّ : }كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا{.النساء56. يفعل عزَّ و جلَّ بهم ذلك كما وافقوا أنفسهم و أهواءهم في الدنيا في معاصيه عزَّ و جلَّ ، فأهل النار تجدد لهم كل وقت جلود و لحوم لإيصال العذاب و الآلام إليهم. و سبب ذلك مجاهدة النفس و عدم موافقتها في دار الدنيا و هذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدنيا مزرعة الآخرة ).
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : إذا أجاب الله عبداً ما سأله و أعطاه ما طلبه لم تنخرم إرادته و لا ما جف به القلم و سبق به العلم، لكنه يوافق سؤاله مراد ربه عزَّ و جلَّ في وقته، فتحصل الإجابة و قضاء الحاجة في الوقت المقدر الذي قدره له في السابقة لبلوغ القدر وقته كما قال أهل العلم قوله عزَّ و جلّ : }كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ{.الرحمن29. أي يسوق المقادير إلى المواقيت، يعطى الله أحداً شيئاً في الدنيا بمجرد دعائه، و كذلك لا يصرف عنه شيئاً بدعائه المجرد، و الذي ورد في الحديث ( و لا يرد القضاء إلا الدعاء ) قيل إن المراد به لا يرد القضاء إلا الدعاء الذي قضى أن يرد لقضائه، و كذلك لا يدخل أحد الجنة في الآخرة بعمله، بل برحمة الله عزَّ و جلَّ، لكنه يعطى العباد في الجنة الدرجات على قدر أعمالهم.
و قد ورد في حديث عائشة رضي الله عنها ( أنها سألت النبي صلى الله عليه و سلم هل يدخل أحد الجنة بعمله؟ فقال لا برحمة الله، فقالت و لا أنت؟ فقال و لا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته و وضع يده على هامته ) و ذلك لأن الله عزَّ و جلَّ لا يجب عليه لأحد حق و لا يلزمه الوفاء بالعهد، بل يفعل ما يريد يعذب من يشاء و يغفر لمن يشاء، و يرحم من يشاء، فعال لما يريد و لا يسال عما يفعل و هم يسئلون، يرزق من يشاء بغير حساب بفضل رحمته و منته، و يمنع من شاء بعدله، و كيف لا يكون كذلك و الخلق من لدن العرش إلى الثرى التي هي الأرض السابعة السفلى ملكه و صنعه، لا مالك لهم غيره و لا صانع لهم غيره، قال عزَّ و جلَّ : }هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ{.فاطر3. و قال تعالى : }أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ{.النمل60–61–62–63–64. و قال تعالى : }هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً{.مريم65. و قال تعالى : قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ{.آل عمران26–27.
فـي الأمـر بـطـلـب الـمـغـفـرة و الـعـصـمـة
و الـتـوفـيـق و الـرضـا و الـصـبـر مـن الله تـعـالـى
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : لا تطلبنّ من الله شيئاً سوى المغفرة للذنوب السابقة و العصمة منها في الأيام الآتية اللاحقة، و التوفيق لحُسن الطاعة، و امتثال الأمر و الرضا بمر القضاء، و الصبر على شدائد البلاء، و الشكر على جزيل النعماء و العطاء، ثم الوفاة بخاتمة الخير، و اللحوق بالأنبياء و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقاً و لا تطلب منه الدنيا و لا كشف الفقر و البلاء إلى الغناء و العافية، بل الرضا بما قسم و دبر، و اسأله الحفظ الدائم على ما أقامك فيه و أحلك و ابتلاك، إلى أن ينقلك منه إلى غيره و ضده، لأنك لا تعلم الخير في أيهما، في الفقر أو في الغناء، في البلاء أو في العافية، طوى عنك علم الأشياء و تفرد هو عزّ و جلّ بمصالحها و مفاسدها.
فقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا أبالى على أي حال أصبح، على ما أكره أو على ما أحب، لأني لا أدرى الخير في أيهما. قال ذلك لحسن رضاه بتدبير الله عزّ و جلّ، و الطمأنينة على اختياره و قضائه. قال الله تعالى : }كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{.البقرة216.
كن على هذا الحال إلى أن يزول هواك و تنكسر نفسك فتكون ذليلة مغلوبة تابعة ثم تزول إرادتك و أمانيك، و تخرج الأكوان من قلبك و لا يبقى في قلبك شئ سوى الله تعالى، فيمتلئ قلبك بحب الله تعالى، و تصدق إرادتك في طلبه عزّ و جلّ فيرد إليك الإرادة بأمره بطلب حظ من الحظوظ دنيوية و أخروية، فحينئذ تسأله عزّ و جلّ بذلك و تطلبه ممتثلاً لأمره، إن أعطاك شكرته و تلبست به، و إن منعك لم تتسخط عليه و لم تتغير عليه في باطنك و لا تتهمه في ذلك ببخل، لأنك لم تكن طلبته بهواك و إرادتك، لأنك فارغ القلب عن ذلك غير مريد له، بل ممتثلاً لأمره بالسؤال و السلام.
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : كيف يحسن منك العجب في أعمالك و رؤية نفسك فيها و طلب الأعواض عليها، و جميع ذلك بتوفيق الله تعالى و عونه و قوته و إرادته و فضله، و إن كان ترك معصيته فبعصمته و حفظه و حميته.
أين أنت من الشكر على ذلك و الاعتراف بهذه النعم التي أولاكها، ما هذه الرعونة و الجهل، تعجب بشجاعة غيرك و سخائه و بذل ماله إذا لم تكن قاتلاً بعودك إلا بعد معاونة شجاع ضرب في عدوك ثم تمنيت قتله، لولاه كنت مصروعاً مكانه و بدله، و لا باذلاً لبعض مالك إلا بعد ضمان صادق كريم أمين ضمن لك عوضه و خلفه، لولا قوله و طمعك فيما وعد لك و ضمن لك ما بذلت حبة منه، كيف تعجبك بمجرد فعلك.
أحسن حالك الشكر و الثناء على المعين و الحمد لله الدائم و إضافة ذلك إليه في الأحوال كلها إلا الشر و المعاصي و اللوم، فإنك تضيفها إلى نفسك و تنسبها إلى الظلم و سوء الأدب و تتهمها به، فهي أحق بذلك لأنها مأوى لكل شر و أمارة بكل سوء و داهية وإن كان هو عزّ و جلّ خالقك و خالق أفعالك مع كسبك، أنت الكاسب و هو الخالق كما قال بعض العلماء بالله عزّ و جلّ : تجئ و لا بد منك، و قوله صلى الله عليه و سلم : ( اعملوا و قاربوا و سددوا فكل ميسر لما خلق له ).
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : لا يخلو إما أن تكون مريداً أو مراداً.
فإن كنت مريداً فأنت محمل و حمال يحمل كل شديد و ثقيل، لأنك طالب و الطالب مشقوق عليه حتى يصل إلى مطلوبه و يظفر بمحبوبه و يدرك مرامه، و لا ينبغي لك أن تنفر من بلاء ينزل بك في النفس و المال و الأهل و الولد، إلى أن يحط عنك الأعمال، و يزال عنك الأثقال، و يرفع عنك الآلام و يزال عنك الأذى و الإذلال، فتصان عن جميع الرذائل و الأدران و الأوساخ و المهانات و الافتقار إلى الخليقة و البريات، فتدخل في زمرة المحبوبين المدللين المرادين.
و إن كنت مراداً فلا تتهمن الحق عزّ و جلّ في إنزال البلية بك أيضاً، و لا تشكن في منزلتك و قدرك عنده عزّ و جلّ، لأنه قد يبتليك ليبلغك مبلغ الرجل، و يرفع منزلتك إلى منازل الأولياء.
أتحب ما يحط منزلتك عن منازلهم و درجاتك عن درجاتهم و أن تكون خلعتك و أنوارك و نعيمك دون ما لهم، فإن رضيت أنت بالدون فالحق عزّ و جلّ لا يرضى لك بذلك . قال تعالى : }وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{.البقرة216+232.آل عمران66.النور19. يختار لك الأعلى و الأسنى و الأرفع و الأصلح و أنت تأبى.
فإن قلت: كيف يصلح ابتلاء المراد مع هذا النعيم و البيان مع أن الابتلاء إنما هو للمحب، و المدلل إنما هو المحبوب.
يقال لك ذكرنا الأغلب أولاً و سمرنا بالنادر الممكن ثانياً.
لا خلاف أن النبي صلى الله عليه و سلم كان سيد المحبوبين أشد الناس بلاء، و قد قال صلى الله عليه و سلم ( لقد خفت في الله ما لا يخافه أحد، و لقد أوذيت في الله لم يؤذه أحد، و لقد أتى علي ثلاثون يوماً و ليلة و ما لنا طعام إلا شيء يواريه إبط بلال ) و قد قال صلى الله عليه و سلم ( إنا معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل ) و قد قال صلى الله عليه و سلم ( أنا أعرفكم بالله و أشدكم منه خوفاً ) فكيف يبتلى المحبوب و يخوف المدلل المراد و لم يكن ذلك إلا بما أشرنا إليه من بلوغ المنازل العالية في الجنة لأن المنازل في الجنة لا تشيد و لا ترفع بالأعمال في الدنيا.
الدنيا مزرعة الآخرة، و أعمال الأنبياء و الأولياء بعد أداء الأوامر و انتهاء النواهي و الصبر و الرضا و الموافقة في حالة البلاء يكشف عنهم البلاء و يواصلون بالنعيم و الفضل و الدلال و اللقاء أبد الآباد، و الله أعلم.
فـي مـن إذا دخـل الأســواق و مـال إلـى مـا فـيـهـا
و مـن إذا دخـلـهـا و صـبـر
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : الذين يدخلون الأسواق من أهل الدين و النسك في خروجهم إلى أداء ما أمر الله تعالى من صلاة الجمعة و الجماعة و قضاء حوائج تسنح لهم على أضرب :
مــنــهــم من إذا دخل السوق و رأى فيه من أنواع الشهوات و اللذات تقيد بهما و علقت بقلبه فتن، و كان ذلك سبب هلاكه و تركه دينه و نسكه و رجوعه إلى موافقة طبعه و إتباع هواه إلا أن يتداركه عزّ و جلّ برحمته و عصمته و إصباره إياه عنها فتسلم.
و مــنــهــم من إذا رأى ذلك كاد أن يهلك بها رجع إلى عقله و دينه و تصبر و تجرع مرارة تركها، فهو كالمجاهد ينصره الله تعالى على نفسه و طبعه و هواه، و يكتب له الثواب الجزيل في الآخرة. كما جاء في بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( يكتب للمؤمنين بترك شهوة عند العجز عنها أو عند المقدرة سبعون حسنة ) أو كما قال.
و مــنــهــم من يتناولها و يتلبس بها و يحصلها بفضل نعمة الله عزّ و جلّ التي عنده من سعة الدنيا و المال، و يشكر الله عزّ و جلّ عليها.
و مــنــهــم من لا يراها و لا يشعر بها، فهو أعمى عن ما سوى الله عزّ و جلّ، فلا يرى غيره، و أصم عما سواه فلا يسمع من غيره، عنده شغل عن النظر إلى غير محبوبه و اشتهائه، فهو في معزل عما العالم فيه فإذا رايته و قد دخل السوق فسألته عما رأى في السوق يقول ما رأيت شيئاً. نعم قد رأى الأشياء لكن قدر رآها ببصر رأسه لا ببصر قلبه، و نظرة فجاءت لا نظرة شهوة، نظر صورة لا نظر معنى، نظر الظاهر لا نظر الباطن، فبظاهره ينظر إلى ما في السوق و بقلبه ينظر إلى ربه عزّ و جلّ، إلى جلاله تارة و إلى جماله تارة أخرى.
و مــنــهــم من إذا دخل السوق امتلأ قلبه بالله عزّ و جلّ رحمة لهم، فتشغله الرحمة لهم عن النظر إلى ما لهم و بين أيديهم فهو في حين دخوله إلى حين خروجه في الدعاء و الاستغفار و الشفاعة لأهله و الشفقة و الرحمة عليهم و لهم، و عينه مغرورقة و لسانه في ثناء و حمد لله عزّ و جلّ بما أولى الكافة من نعمه و فضله فهذا يسمى شحنة البلاد و العباد، و إن شئت سميته عارفاً و بدلاً و زاهداً و عالماً غيباً و بدلاً محبوباً مراداً و نائباً في الأرض على عباده، و سفيراً و جهبذاً و نفاذا و هادياً و مهدياً و دالاً و مرشداً فهذا هو الكبريت الأحمر و بيضة العقعق، رضوان الله عليه و على كل مؤمن مريد لله وصل إلى انتهاء المقام، و الله الهادي.
فـي قـســم مـن الأولـيـاء قـد يـطـلـعـه الله عـلـى عـيـوب غـيـرهـم
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : قد يُطلع الله تعالى وليه على عيوب غيره و كذبه و دعوته و شركه في أفعاله و أقواله و إضماره و نيته، فيغار ولى الله لربه و لرسوله و دينه فيشتد غضب باطنه ثم ظاهره حاضراً و غائباً، كيف يدعى السلامة مع العلل و الأوجاع الباطنة والظاهرة؟؟ و كيف يدعى التوحيد مع الشرك، و الشرك كفر و بعد عن قرب الله و هو صفة العدو و الشيطان اللعين، و المنافقين المقطوع لهم بالدرك الأسفل من النار و الخلود فيها فيجرى على لسان الولي ذكر عيوبه و أفعاله الخبيثة و وقاحته بعريض دعاويه أحوال الصديقين و مزاحمته للفانين في قدر الله و فعله،و المراد من على وجه الغيرة لله عزّ و جلّ، مرة على وجه الإنكار له و الموعظة له أخرى، و على وجه الغلبة بفعل الله عزّ و جلّ و إرادته و شدة غضبه على الكذب أخرى فيضاف إلى الله عزّ و جلّ غيبة، فيقال أيغتاب الولي و هو يمنع منها أو يذكر الغائب و الحاضر بما يظهر عند الخواص و العوام؟؟ فيصير ذلك الإنكار في حقهم كما قال الله عزّ و جلّ : }وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا{.البقرة219. في الظاهر إنكار المنكر و في الباطن إسخاط الربّ و الاعتراض عليه فيصير حاله الخيرة، فيكون فرضه فيها السكوت و التسليم و طلب المساعي لذلك في الشرع، و الجواز لا الاعتراض على الربّ و الولي يطعنان لافترائه و كذبه، و قد يكون ذلك سبباً لإقلاعه و توبته و رجوعه عن جهله و حيرته، فيكون كرهاً للولي نفعاً للمغرور الهالك بغروره و رعونته. }وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{.البقرة213.النور46.