آخر 10 مشاركات
الخبيصه الاماراتيه (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 1 - المشاهدات : 20541 - الوقت: 09:09 PM - التاريخ: 01-13-2024)           »          حلوى المغلي بدقيق الرز (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 14478 - الوقت: 03:16 PM - التاريخ: 12-11-2023)           »          دروس اللغة التركية (الكاتـب : عمر نجاتي - مشاركات : 0 - المشاهدات : 20613 - الوقت: 11:25 AM - التاريخ: 08-21-2023)           »          فيتامين يساعد على التئام الجروح وطرق أخرى (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 22054 - الوقت: 08:31 PM - التاريخ: 07-15-2023)           »          صناعة العود المعطر في المنزل (الكاتـب : أفاق الفكر - آخر مشاركة : OM_SULTAN - مشاركات : 4 - المشاهدات : 56126 - الوقت: 10:57 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          كحل الصراي وكحل الاثمد وزينت المرأة قديما من التراث (الكاتـب : Omna_Hawaa - آخر مشاركة : OM_SULTAN - مشاركات : 2 - المشاهدات : 51276 - الوقت: 10:46 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          كيفية استخدام البخور السائل(وطريقة البخور السائل) (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 2 - المشاهدات : 43150 - الوقت: 10:36 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          جددي بخورك (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 25580 - الوقت: 10:25 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          عطور الإمارات صناعة تراثية (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 25936 - الوقت: 10:21 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          خلطات للعطور خاصة (الكاتـب : أفاق : الاداره - آخر مشاركة : OM_SULTAN - مشاركات : 1 - المشاهدات : 31849 - الوقت: 10:12 PM - التاريخ: 11-06-2022)

إضافة رد
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 11-20-2004, 12:19 AM   رقم المشاركة : 1
الكاتب

abo _mohammed

المشــرف العــــام

abo _mohammed غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









abo _mohammed غير متواجد حالياً


عودة الفجر رسالة للأستاذ الراشد

عودة الفجر رسالة للأستاذ الراشد


( 1 ) كلما واجه المؤمن الصعاب، وحاصرته المشكلات: أسرع الرجوع إلى مفاخر التاريخ الإسلامي، يستنطقها وينهل منها ويستعير حلاً مناسباً لما هو فيه، وهذا النمط الذي تولع به الدعاة وعامة المسلمين تجابهه اعتراضات من كثير من النقاد، ويحسبونه ضرباً من التصرف العاطفي، وتهرباً من واجب التفكير الإبداعي، ومن ثم تكون لهم جرأة في اتهام هؤلاء المستلهمين للتاريخ بالرجعية والقصور.
ولست مع هؤلاء المنكرين، ولا استظرف أسلوبهم في ازدراء العبر التاريخية وما تحمل من قدرة على الوعظ والتعليم لحائر أصابته الدهشة فنوى حث الأجداد على أن يعينوه برأي، بل ذلك تصرف معرفي سليم ونهج تخطيطي قويم ما دام الداعية صاحب نظر جلي في التـفريق بين الثابت والمتغير، ودلالة النص وطبائع المصالح وأحكام الضرورات ، فإن الخلل إنما ينشأ من الاستعارة الجامدة وتقليد تجارب السلف حرفياً، وأما صاحب المرونة الذي له فهم للواقع المتغير ويأخذ يستعير ويدع بما تستلزمه مداراة المستجدات فإنه في سلوك علمي صحيح.
بل أنا أذهب إلى أبعد من هذا وأرى في أي تجربة تاريخية دليلاً كاملاً على واقعية الإسلام وقابلية مذاهب الفقه والتربية الإيمانية على أن تتجسد في عالم الواقع وتكون تجربة إنسانية حقيقية تنفي ما يتهمنا به الفلسفي والعلماني من أنَّ الإسلام كله رمزيات ومثاليات وتحليقات في عالم الأوهام، فحدوث تلك التجارب عبر التاريخ الإسلامي الطويل شاهد على أن الصفات الأخلاقية العالية التي يطلبها الإسلام من الإنسان ممكنة الحدوث ويمكن أن تصاغ عملياً وتظهر آثارها الإصلاحية في المجتمع، وبخاصة إذا كان المهتدي الخلوق خليفةً وحاكماً، إذ أن سلطته تجعل جمهور الناس يقلدونه في طريقته الأخلاقية وعفافه وعدله، ويكون منهم إذعان عن طواعية لأوامره وخططه البناءة، ولطموحاته الحضارية.

وتتجلى تجربة هارون الرشيد كشاهد على هذا النجاح من بعد تجربة عمر بن عبد العزيز، ومن مقاربة قاربها أبو جعفر المنصور، فإن هارون الرشيد خليفة مؤمن عادل، حضاري الرؤية والممارسة، وارتفع بهمم الناس في زمنه لتتوازى مع تحليقات همته السامية، وذلك واضح فيما وصفه به الثقات، وهو هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور، بويع له سنة 170 هـ ومات سنة 193 هـ، قالوا:
( كان من أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزواً وحجاً، ولهذا قال فيه أبو السعلي:

فمنْ يطلبْ لقاءكَ أو يُردهُ *** فبالحرمينِ أو أقصى الثغورِ

( وكان يحبُّ الفقهاء والشعراء ويعطيهم، ولا يضيع لديه بر ومعروف، وكان نقش خاتمه لا إله إلا الله، وكان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعاً، إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة)، وزوجته زبيدة(كانت أرغب الناس في كل خير وأسرعهم إلى كل بر ومعروف)، وفضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جداً( 1 )، ولذلك كان عصره أزهى العصور، وطريقتنا في الاستمداد من مفاخر السلف تقرر بأن داعية الإسلام اليوم لو تمنى حاكماً يطيل السجود ويحفظ التهجد ويحج ويجاهد: فإنه إنما يتمنى أمراً واقعياً هو في قدرة البشر، وليس خيالياً ولا فيه إعنات بل هو طبيعي مألوف وأمر ينساب انسياباً من غير تكلف إذا كان القلب حياً وطاهراً، وفي الأصل نجابة، وإذا أراد حاكم أن يتوب من الكسل والهوى العلماني فانه عما قريب سيكون شريكاً في الحضارة نشطاً، بل يمكن أن يأتي بحضارة إسلامية متميزة عن حضارة الانحراف الحالية العالمية هي تكرار لحضارة أيام الرشيد الإيمانية، وفي هذا ما يعطي لنقدنا السياسي شرعية وصواباً، فإنَّ الدعوة الإسلامية إنما تنقد انحرافات الحكومات العلمانية لا استنادا إلى نصوص الشرع فقط بل إلى ما ظاهرها من هذه الحقائق التاريخية أيضاً.

وليس الحاكم فقط هو المؤهل للبرهنة على المقدار الوافر من الحيوية الكامنة في أصل الحقيقة الإسلامية، والتي تنتظر من يفجرها من الحكام تفجيراً ويجعلها تجربة إصلاحية تسعد بها البشرية، بل ذلك متاح أيضاً لكل ذي ذكاء أو شجاعة أو نبل أو وجه آخر من وجوه الخير والعطاء والحرص على نفع الناس، فإنَّ الساحة مفتوحة لمثل هذه العناصر المتميزة ذات النزعة القيادية، لتؤدي دورها الإصلاحي المكمل لدور الحاكمين، و لترتكب إبداعاً وتنتصب قدوة ، لا يكبتها كابت مهما ظلم، ويمكن أن تتضاعف تأثيرات هذه القدوات وأن تتناوش النتائج الإصلاحية من طريق قريب إذا اجتمعت ووحدت جهودها وتغافرت وعلت هممها لتكون فوق الخلافيات وصغار الهفوات، ناظرة نحو الصالح العام، مهدرة لحقوقها الشخصية.


وإبراهيم بن ادهم مثال لهؤلاء، فقد جمع بين الزهد وفقه النفوس، وحرص على دور وعظي تربوي، وجمع إلى ذلك حياة جهادية حتى وفاته سنة 162 هـ، وله مشهد متميز وإبداع في الإصرار على نية الجهاد وهو على فراش المرض، فانه كان يكثر الغزو…(وذكروا أنه توفي في جزيرة من جزائر بحر الروم وهو مرابط…فلما كانت غشية الموت قال: أوتروا لي قوسي، فأوتروه، فقبض عليه، فمات يريد الرمي به إلى العدو-رحمه الله-)( 2 )، وهذا المشهد بريء من تكلف يظنه المستعجل الذي لا خبرة له في التربية العملية، وإنما أراد إبراهيم صناعة مشهد من التربية بالمنظر الغني بالمعاني التأثيرية النفسية، وما كان الوضع آنذاك يحتاج رميته، إذ الرماة ألوف، ولكنه أراد إلقاء معنى الجهاد في نفوس الناظرين وفي نفوس أفراد كل جيل مؤمن تبلغه قصته، وهذا الاحتفال بالجهاد والإذعان لأمر الله بالدفاع والغزو هو أحد الدروس التي يليق للتربية الدعوية اليوم أن تستلهمها من تاريخنا المجيد، فإن الاستعمار الأمريكي يريد أن يرسخ قدمه، ويريد أن يغير عقائد المسلمين ومناهجهم التربوية وأفكارهم وأخلاقهم بما يوازي الفلسفة المادية الغربية، وأيما جنوح للسلم إذ الاحتلال جاثم سيكون بداية الهزيمة لنا، وستنحل العزائم، وسيكون من الصعوبة بمكان أن نستأنف الجهاد، وبخاصة بعد ما تكشفت أساليب التخدير المعنوي والتضليل الإعلامي وتسويغ الفساد والإغراء بالمال والفرص والنساء، ولذلك يجب أن تبقى الجذوة الجهادية، ساخنة متصلة ضاغطة، فإنَّ الجهاد هو خط الدفاع الأهم، وكم في تاريخنا الأغر من نماذج جهادية يسهل استلهام دروسها وتوظيفها في معركتنا الجهادية الحالية، وفي هذا الإمكان الدليل على واقعية الحل الإسلامي.
----------
( 1 ) البداية والنهاية10/230.
( 2 ) البداية والنهاية 10/148.
_________________
( 2 ) الاستدراك الثاني: تأسيس معنى" تمحيض الولاء " في قلوب شباب الصحوة الإسلامية، وتربية عموم الناس على ذلك، كلٌ بحسب مركزه وثقافته وطبيعة أدائهِ، حتى العامي الذي يظنُ أنه غير مقصود بهذا الأداء: هو مكلفٌ أيضاً بأن يبرأ من حب ظالمٍ أو منحرف ، وأن يعتز بفقرهِ دون أن يسمح لنفسه بتمني المنافع من كافرٍ أو فاسقٍ يستدرجهُ ويريد أن يصعد على أكتاف الفقراء إلى تحقيق علوٍ في الأرض واستكبارٍ يعود بتدمير.

إنَّ صورة الصلاة قد تكون واسعة، وقد شاعت العبادةُ وعمرّت المساجد، لكن الدعاة ما زالت مشكلتهم مع الناس قائمة، لأنَّ الكثير من هؤلاء الناس يرضونَ بأن يتعاملوا بشخصيتين: شخصية السجود لله، ولزوم الأخلاق، وشخصية الانتساب إلى حزبٍ علماني، أو التبعية لزعيمٍ لا ينتهجُ منهج الخضوع لأحكام الشرع، بل قد يرضى لنفسه أن يدخلَ دائرة الشُبهات فيكون تابعاً لمتعاملٍ مع مستعمرٍ من وراء البحار.


رد مع اقتباس
قديم 11-20-2004, 12:25 AM   رقم المشاركة : 2
الكاتب

abo _mohammed

المشــرف العــــام

abo _mohammed غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









abo _mohammed غير متواجد حالياً


وهذا هو الداء الدوي، لأنَّ صلاح الفرد إنما يعود على نفسه أو على عائلته بالفائدة، وربما يكون في جانبٍ فيه مفيداً لكل المجتمع، بأن يكون ذلك الفرد الصالح نقطةً حياديةً لا تحتاج علاجاً أو اهتماماً زائداً، وهذه إيجابية لكنها محدودة، أما الولاء والتعاون مع علماني ومشبوه فإنه يؤدي إلى تمكينهم من السلطة، ومن موطن التسلط يباشرون الإفساد العريض عبر مناهج الدراسة ووسائل الإعلام والفساد الإداري ونهب الثروات واستقدام جيوش العولمة، في سيئاتٍ عديدة أخرى ليس لها آخر، وهذا هو سبب جسامة خطر الولاء لغير المؤمنين ، فإنه من الواضح لو أجرينا المقابلة وانعكاس المعنى لوجدنا أنَّ ولاء المسلم لدعاة الإسلام وسعيه إلى تمكينهم من مقعد البرلمان ووظائف الدولة والنقابات وجمعيات المجتمع المدني سيكون بالغ الأثر والوسيلة الفعالة لتحقيق العدل والقسمة السوية وعمران الأخلاق ورفض التطبيع مع يهودي ومحتل، ومن هذه المقارنة البسيطة تظهرُ مكانة خطة تعميم الولاء للمؤمنين والبراءة من الفسقة والكافرين، ويظهرُ أثر الصوت الانتخابي الواحد أو الكلمة الطيبة المفردة العابرة أو اللسان المـُنصف، ويظهرُ أثر هذه الخيريات الصغيرة في تحقيق الخير الكبير والتفوق الإسلامي على محاولات الاندساس العلماني، وظاهرٌ هنا أنَّ الصوت الواحد قد انضم إلى مثيلٍ له وإلى ألوف أصوات ليكون في النهاية ترجيحاً لعابدٍ لله على حليف لشيطان، فقضية الولاء والبراء قضية فردية في أصلها وهي مسؤولية شخصية، لكنها حقيقة جماعية في نهايتها ، وتُقاسُ باقي مظاهر العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي على هذا المثال ليبدو في الصورة الختامية أنَّ مجموعة أفعال الفرد الواحد مهما كانت صغيرة لها قابلية عظيمة أن تـتكثف وتنظم إلى بعضها لتكون عاملاً حاسماً في إيصال المؤمن إلى الحكم ومركز صناعة القرار وتقنين الدستور والقوانين وتنظيف الوزارات والدواوين وتفعيل النقابات والجمعيات، وهذا يوضح أنَّ الإيمان في أصلهِ مسؤولية فردية لا يصحُ فيها توكيل الغير ولا التبرع بحمل تكاليف الإيمان نيابةً عن الغير، بل كلُ امرئٍ بما كسب رهين، كما نطق القرآن الكريم، فمن طلب العدل والمساواة والأمن والاستقرار والحرية وحفظ مصالح البلاد الكبرى: فليصلح نفسه أولاً ثمَّ ليترجم ذلك في صورة انحياز شامل لخطط المؤمنين وأحزابهم وتنظيماتهم، وتلك هي حقيقة الولاء والبراء، ولا يصحُ أبداً أن يبخس المؤمن دورهُ الذاتي الشخصي في عملية الإصلاح، فإنه دورٌ كبير وحاسم ما دام يوالي ويبرأ، وواهمٌ هذا الذي يُصلي ثمَّ يبيع صوته أو جهدهُ أو كلمته لمنحرف ووكيلٍ لمحتل، لأنَّ البركة الربانية هي التي تجعله ينعم ويرفل برزقٍ من السماء تحملهُ الملائكة إذا باع واشترى وتعامل مع الله، وأما ملايين تأتي بها الشبهات فإنها محرومة من البركة، فتزول سريعاً ويبقى وزرها ، وهذا التفريق يشهدهُ كل قلب سليم، ولا حاجة لكي نستطرد في الشرح والبيان، وكل امرئٍ فقيهُ نفسه، وعند الله تجتمع النوايا، وسيخيبُ من افترى كذباً وحادَّ ومالَ ومشى برجلٍ عرجاء، لكنَّ الراكض نحو أرض البراء والجهاد هو الفائز، وكفى.

وهذا المرض ليس بالجديد في أمتنا، بل هو قديمٌ منذ أيام التراجع بعد القرون الفاضلة الأولى، فقد نقل ابن مفلح عن ابن عقيل الحنبلي أنه قال :
( إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة)( 1 ).
فإسلام المسلم عنده: ليس السباق إلى المسجد ومكة، ولكن هو الولاء السياسي والفكري لله ولرسوله ولأئمة الإسلام في عصره، من الدعاة العاملين وأحزاب الله، ثمَّ البراء من أئمة السوء وأحزاب الشيطان، وكأنه ينقد زماننا، فكم من حزبٍ علماني يسنده حاجٌ وراكع، وكم من داعيةٍ مؤمنٍ أول مَن يكذبه الساجدون، لقلة الفقه وانحراف القلب وانقلاب الموازين- والعياذ بالله - ، ( وهذا يدلُ على برودة الدينِ في القلب ) كما قال ابن عقيل معقباً، ولسنا نقول بكفر مخلط جمع بين التكبير والهتاف لزعيمٍ ماجن، ولكنه افتقاد حرارة الإيمان والذهول عن موازين الشرع، والسبب في ذلك هو إلهام الفجور في النفس حين يكون صاحبها هيناً ليناً ليس لهُ صبرٌ على ضرائب ما تُلهمه التقوى، من التضحية والصبر والزهد بالمال والمنصب والجاه، وتزداد ظواهر وآثار هذه المحنة إذا كان من لهُ طرفٌ من العلم الشرعي عامي المزاج والسلوك والأمنيات ، فإنه يوجد رهطٌ من مثل هؤلاء في كل جيل ومع كل حاكم، حتى رصد ابن الجوزي أنهم : ( ترخصوا، وتأولوا، وخالطوا السلاطين، فذهبت بركة العلم )( 2 )، وهي تفسيرُ بعض قصة جفاف العراق، فإنَّ البعض خالطوا السلطان" صدام " ، ووجدوا لهم في التأول سنداً، ثمَّ نزلوا ثانيةً فخالطوا نائب السلطان، فخمدت الجذوة، ودخلوا الكهف البارد، وارتفعت بركة القول الشرعي، وذهبت حرارة آيات يتلونها، ولولا أنَّ الشباب الدعاة كانوا قد تلقفوا الراية لساء الحال، ولكنهم رفعوا الآذان بنبرةٍ عفيفة ورداءٍ نظيف، فعادت الحياة إلى قلوب الجيل.

وإنما ذلك من النفاق، وقد قال الله تعالى في وصف المنافقين: ( كأنهم خُشبٌ مُسنّدة ) .
قال ابن عقيل النحوي الحنبلي:
( أي مقطوعة مُمالة إلى الحائط ، لا تقوم بنفسها ، ولا هي ثابتـة ، إنما كانوا يستندون إلى مَن ينصرهم ، وإلى مَن يتظاهرون به )( 3 ).
ومع ذلك فإنَّ نفوسنا لها عزاءٌ أحياناً عبرَ التأول بأنهم لم يبعدوا جداً، لأنهم إنما يواكبون جهالات مسلم ظالم، ولكن ما بالُ أقوامٍ يبعد بهم التأول إلى أقاصي المنطق البارد فيطلبون من ينصرهم من ضباط الاحتلال الاستعماري والساسة الذين أغروه بغزو ديار الإسلام؟ بل غزو عاصمة الإسلام، عاصمة الرشيد؟!
ويكاد السائب الذي لا يحملُ الروح الدعوية الواثقة بأنَّ المستقبل محتكر لدين الإسلام وأهله: أن يـيأس ويناله الإحباط حين يرى مثل هؤلاء المترخصين المقارفين للشبهات والمعاصي السياسية الغليظة، ولكن رجال الإيمان الوعاة وشباب الصحوة الإسلامية يعرفون ويميزون جيداً أنَّ أصحاب الاختيارات الواطئة والمقاييس الدنيوية العمياء إنما هم العراة عن الفقه، ووعاة المؤمنين تغشاهم سكينة يعلمون بها أنَّ التعويل والاستناد والأمل لا يقومُ على ثلةٍ قليلة منحرفة، وإنما ينتظرونه من وعاةٍ دعاةٍ علماء عاشوا في ظلال القرآن، وتخيلوا الجنة فاستراحوا تحت أفياء أغصانها، وهم عصبةٌ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وترفع راية الولاء للإسلام وتصيح صيحة البراء من الكافر المستعمر.
وذلك ميزانٌ دعوي ثابت، الدعاة اليوم بحاجة ماسة إلى استذكاره بعدما روّج دعاة الواقعية معنى تجويز التقرب من الأميركان عندما استعمروا العراق وأفغانستان، مؤداه أنَّ انتماء العراقي إلى حملة الأميركان: دَنَس ووسخ ونجاسة، وكل ذلك ينافي عزة النفس، ولا يستثنى من ذلك غير مسلم جيد الإيمان له وعي في السياسة، يقبل منهم المنصب من أجل أن يقلل شرهم ويحفظ حقوق المسلمين، ويكون قد تقرّب منهم بقرار جماعي، ويمارس تحت رقابة جماعية.
المظنون: أنه ينتظرنا يوم أشد من يوم التعامل مع الأميركان، كأنه محتوم على العراق، وهو التعامل مع إسرائيل عبر معاهدة سلام، والتطبيع مع يهود، والحل إنما يكون عبر اللواذ بقاعدة الولاء والبراء وشرحها بأسانيدها القرآنية والحديثية وشواهدها من السيرة المصطفوية المطهرة وتاريخ الأمة، واستذكار قصص العلماء الوعاة، كمثل ما كان من الفقيه الليبي أحمد بن إبراهيم بن سحبان التاجوري المتوفى سنة 1276هـ الذي جدد إرساء هذه القاعدة من قواعد الوعي الدعوي حين شدّد على قضية تمحيض الولاء للمؤمنين، والبراء والبُعد عن اليهود والأجانب وأعداء الدين، وذلك لما استـُفـتي حول النظام القانوني الجديد الذي صدر في عهد السلطان العثماني محمود خان الثاني، ومنح الامتيازات للأجانب واليهود وملل أخرى، ولم يخضعهم للمحاكم الشرعية، وإضفاء عصمة لكل مسلم يدخل تحت حماية السفارات الأجنبية، فقال ابن سحبان-رحمه الله-:
( وأعجب العجب من المفاتي الفاتنين المفتونين من الديار التونسية الزاعمين أنهم حنفية " * " ، المادحين لهذا النظام، الذين هدموا بذلك دين الإسلام بقصيدة طويلة طويلة مطلعها:

نظامك أيها الملك الهُمام *** به للدينِ قدْ ظهر ابتسامُ

فقلتُ في الرد عليه:

الحمد لله الذي أمرنا بالاقـتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال…ونهانا عن التشبه بالكفار، فكان بسبب ذلك النجاة من الضلال، فقال : ((من تشبهَ بقومٍ فهو منهم))، ولذا قلتُ نظماً:

نظامكَ أيها الغمر الرغامُ *** بدى منه إلى الدينِ انهدامُ ).
ولهُ رسالة مؤرخة في 19 ذي القعدة 1267هـ يشدد النكير فيها على مواطنيه من المسلمين ممن يستأمنون اليهود ويكلون إليهم قضاء حوائجهم، فيقول:
( فكيف يا خير فرقة من خير أمة تستأمنون اليهود، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه { لتجدنَّ أشدَّ النَّاسِ عداوةً للذينَ آمنوا اليهود.. } المائدة، فكـيف بعد هذا التحذير يطمع مؤمن من يهودي خيراً؟ وعلى أنهم أعداء الأنبياء…فكيف لمن آمن بالكتاب والرسول صلى الله عليه وسلم أن يركن لهؤلاء أو يرضى بمخالطتهم أو يأمن مكرهم، هذا من الخطأ الفاحش والغفلة الكبيرة.
نعم… وإلى يومنا هذا مهما أمكنهم قتل مؤمن أو غشه لا يتركونه، لأنهم يتعبدون ويتقربون بذلك على زعمهم وقبحهم…فانظروا بارك الله فيكم آخر الشفاء " ** " وكلام صاحب المدخل على الأطباء…فإذا كان يا أعز الأخوان الأمان قلّ في أهل الإيمان: فكيف يكون حال اليهود البهت أهل الجحود والخسران، وقد علمتَ يا أخي أنَّ نصح المسلمين متعين، لا سيما على من علمهُ الله شيئاً من العلم، ويتأكد ذلك في أوقات الغفلات والتهاون بأمور الديانات…فتنبهوا…أمة النبي صلى الله عليه وسلم …فهذا وما بعده من المتأكد عليكم، وبينوه للعامة تبياناً كلياً)( 4 ).



رد مع اقتباس
قديم 11-20-2004, 12:27 AM   رقم المشاركة : 3
الكاتب

abo _mohammed

المشــرف العــــام

abo _mohammed غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









abo _mohammed غير متواجد حالياً


وهذا هو الجذر الدعوي الحديث لفقه مقاومة التطبيع، وهو معلم من معالم تطور الدعوة، وأحرى بالدعوة الإسلامية في العراق أن تجعل مثل هذه المواعظ من هذا الفاضل الليبي درساً تضعه بين يدي جمهور أهل العراق، وأن تعتقد أنَّ الغمرَ الرغام الذي يتصدرُ ويدور في دائرة خطة الأميركان سينتهي الأمر بمنهجه إلى أن يبدو منه إلى الدين انهدامُ، ولنا أن نشيع وعياً بين الناس يبين تجدد العمل بنظام محمود خان حين أقر عصمةً لكل مسلم يدخل تحت حماية السفارات الأجنبية، وذلك يعني بوضوح أنَّ السفارات ستصطفي لها عدداً من أبناء الشعب يخونون القضية الإسلامية ويجعلون أنفسهم في عداد الجواسيس من دون توجيه تهمة قانونية لهم، وهذا هو ما تحرص عليه أميركا اليوم، فإنها تريد تكوين جيل من العراقيين المتعاونين مع طموحاتها السياسية في الاستبداد بجميع العالم، ويروجون لمفاهيمها التربوية وأقاويلها الإعلامية، ويُسهلون لأدواتها الاقتصادية أن تجول في أرض العراق وتحتكر نفطه وثرواته ثمّ تعبر إلى بقية بلدان العرب وأمة الإسلام ثمَّ إلى العالم أجمع، وهذه الثلة من المصافحين للأميركان تمارس حرباً نفسية أيضاً عبر دعواها أنَّ أميركا جاءت لتبقى، وأنها قوية لا تقهر، في تجاهل لحقيقة أنَّ التحدي الإيماني يضع المسلم المعتصم بروح الاستعلاء في مركز التفوق إذا انفرد بالغازي وجهاً لوجه بعد أن ينتهي مجال استخدام التفوق التكنولوجي، وأنَّ خِلقة نفس الأميركي هي مثلُ خِلقة نفس العراقي، فيها دواعي الشجاعة والثبات وفيها دواعي الهزيمة والنكوص، فيتفوق العراقي المؤمن بما معه من توكل على الله وما مع الأميركي من توكل على الدولار، فأميركا تريد اليوم حماية هذه الثلة الخيانية، ويأبى الله إلا أن يجعل وعي أهل العراق مانعاً لغشها وتدليسها وبهرج خططها وزيف آدابها وفنونها وبحوثها التي تلوي الحقائق لياً وتحرف الدلائل والإحصاءات حرفاً، ولئن أتانا هؤلاء بمزاعم الديمقراطية الأميركية المنحازة : فلنأتينهم بعقائد" البراء " تبطل سحرهم، وقد خاب من افترى.
================
( 1 )الآداب الشرعية لابن مفلح 1/268.
( 2 )الآداب الشرعية لابن مفلح 1/245.
( 3 )الآداب الشرعية لابن مفلح 1/7.
" * " يشير إلى أنّ مذهب الدولة العثمانية كان هو مذهب أبي حنيفة، وأنّ هؤلاء العلماء يجارونه ويحرصون على رضا السلطان الحنفي .
" ** " يعني كتاب القاضي عياض.
( 4 ) أعيان علماء ليبيا – ص 275.
نعم، قد يكون الشعبُ تائهاً ويسلك سلوكاً فوضوياً، ولا يعرف مصالحه ولا مناهج العمل ولا موازين توثيق الرجال، لكننا نحن دعاة الإسلام الذين نصلحه عبر كسب تأييده العاطفي أولاً، ثم عبر توعيته وتربيته بتدرجٍ وخطوٍ موزونٍ واكتشاف شغل خير يتناسب مع كلِ نوعٍ من أنواع الناس واستعدادهم، في تنويعٍ كثيرٍ يتكامل به الاستدراك وتكون كتلة العمل الناتجة موظفة توظيفاً واقعياً تسيرُ فيه أنواع مفردات العمل الإيجابي النافع المحقق للمصالح في خطوط متوازية يعضد بعضها بعضاً لتكون تياراً واحداً هادراً له قدرة التأثير واكتساح العقبات، وليس هذا السلوك القيادي الذي نبديه هو من تغليب العاطفية والخضوع لردود الفعل المستفزة كما يظنُ البعض، ولا هو ركوبٌ للخيالات التي تغيبنا عن تقدير الواقع، فإنَّ هذه الاتهامات تصحُ لو ارتكب خطة الإصلاح فردٌ يريد بزعامته الشخصية أن يديرَ عملاً استدراكياً وحملةً جهادية، ولكنَّ تصورنا للاستدراك الناجح الذي يلجُ من باب العاطفية إنما يكون من جماعةٍ منظمةٍ ذات منهجية وقيادة وجندية وخبرة تخصصية وتجريب ناجح وإسناد عالمي يظاهرها ويمدها بالرأي والفكر والاجتهاد والبلاغ الإعلامي، فتنتقل بالنخبة المستجيبة من أبناء الشعب عبر الفورة العاطفية والتحليقات الرمزية والمحركات الروحية والأشواق الإيمانية إلى أداء عقلاني منهجي، وهذا الوصف النموذجي هو الذي جعل نخبة الدعاة القدماء في العراق يرشحون أنفسهم لقيادة الشعب الأبي بعدما نجحوا في إرساء البنية الأساسية لعملٍ دعوي نموذجي صاروا به أكثف الجماعات السياسية في العراق تأثيراً، وأوسعها انتشاراً، وأطولها تجربة، وأثراها في الاستمداد من النُصرة العالمية، وهم يمدون أياديهم التي ظلت عفيفة طيلة عهد الظلم إلى كل جماعة مخلصةٍ، وعالمٍ شرعي، ومفكرٍ إسلامي، وشيخ عشيرةٍ، وذي مالٍ أنعم الله عليهِ، من أجل تكوين حلف عريض يجهر بأنَّ الإسلام هو الحل، وأنَّ الجهاد هو الطريق.

وإنما نعني ظاهر هذا الذي نقول وباطنهُ المختفي الذي ينبغي استنباطه وعرضهُ على من لم يحط بالمراد كُله، فإنَّ من لا تجربة له عميقة مكافئة لتعقد الظرف والقضية العراقية يتمنى دوراً لأهل السنة عبر قيادةٍ علمية، ويدعو إلى مرجعية سُنيةٍ عليا، وهذا النمط يحصرنا في أداءٍ قيادي فردي لا نؤيده، بل الصوابُ أن تتوغل في الاستدراك عبر عطاء عمل تنظيمي واسع وقيادة جماعيةِ تتكامل علومها وخبراتها وتخصصاتها وتجاربها، مسنودة بمشروع إسلامي عريض، حضاري المدى، مدني الطريقة، علمي الأسلوب، حر الاجتهاد، شوروي النمط، فإنه إذا وجد مثل هذا العمل الحركي الشمولي فإن ما سنجنيه من تأييد الناس إذا توفرت الحرية هو أهم وأوسع من منح نجنيها من أداء الوزارات وجهاز الحكم، ومن عطايا يتصدق بها المحتل، إذا سالمناه وهادناه ورضينا به وصياً علينا وسيداً ومربيا.
إن تاريخ الثورات، وقصص التحرر، وتجارب الجهاد: كلها تؤكد أن الغلبة في الآخر إنما هي للباذل وان احتكر الحق محتكر لوقتٍ وقـَتَل وسجن واعدم واستبد وانتهك الأعراض والحرمات، وتزداد دلالة هذه الحقيقة حين نكتشف أنّ رفضنا العراقي يتزامن مع تصاعد الوتيرة الإسلامية ضد أميركا، بل وغير الإسلامية من أحرار العالم وفي أوربا بخاصة، ومع جهاد فلسطين وإصرار أهلها على مواصلة البذل بعد أن أهدر"بوش"حق العودة واعترف بالمستوطنات.

وكانت المقاومة العراقية الباسلة قد أبلت بلاءاً حسناً وما تزال، وهي التي رفعت رأس العراقي وأجبرت أميركا أن تبدل خططها وتفكر بالانسحاب، وهذه الحقيقة راسخة في عمق وعي دعاة الإسلام في العراق، لكن مذاهب الوعي الدعوي تفيد بأنَّ الجهاد يكون واعياً وغير واع في نفس الوقت، والدعاة إنما ينكرون طريقة السيارات المفخخة والقتل العشوائي للشرطة وتدمير دواوين الحكومة، لما يظنونه من اختلاط أمرها بغايات إقليمية وامتداد أيادٍ غريبة غير عراقية خلطت الأمور وأوجدت تشابكاً، وليس كل من يقاتل يحتكم إلى علم ووعي ويستند إلى خلق قويم، بل هناك الحدث الذي لم تنضجه حكمة الرجال، وهناك الذي يسرف في الدماء ويقتل بعض المساكين بحجة التجسس من غير روية ولا إقامة دليل قاطع، ثم هناك من يجعل ساحته الأماكن المزدحمة بالمدنيين، فتذهب هدراً أرواح بريئة كثيرة، وليست تخلو الجمهرة من نفعي ومزايد ودعي يفاخر ويريد العنتريات التي ليس لها نكاية بمستعمر ولكن نكايتها تكون بمجاهد ينافسه أو ببعض الأهالي، ومثل هذه الخروقات لأخلاقيات الجهاد وموازينه وقواعده هي التي ينكرها دعاة الإسلام، فيظن المستعجل أن الدعاة ينتقدون عموم الجهاد، والمستعجل يقذف بالكلام على رسله ويتمنى ويتهم، وما ثم عند الدعاة غير تأول وحرص على رفع الحرج عن الناس وقول في التمييز بين جهاد له أهداف ووضوح ومنهجية والتزام وإرث تجريبي وتنفيذ مصلحي ومرونة لا تأبى تبدل(التكتيك)وتقبل التغيرات التعبوية، وتخلط كل ذلك بتواضع وتجرد وشكر لله وتودد للناس، وبين جهاد آخر تزاحم به قلة فوضوية ترتيبات الأكثرية، فتلجأ إلى التعالي على الناس، ويكون ديدنها الإسراع إلى قتل الرهائن، واستعمال السلاح في غير موضعه، وهذا التمييز بين النوعيين حقُ ثابت لكل مخلص من أبناء الشعب، وليست العصمة من الخطأ مكفولة لكل من حمل البندقية، بل منطق الواقع يشير إلى احتمال أن يختلط بالدعاة من هو مجازف ولا تردعه التقوى عن ظلم مخلص يعظه بالتروي، ودعاة الإسلام لهم تاريخ عظيم في العالم اجمع عنوانه الجهاد والبذل، وهم الذين علموا الناس طريقة مكافحة الاستعمار وحكروا جهودهم لإسناد القضايا التحررية في بلاد أمة الإسلام حتى ارتوت ارض فلسطين وقناة السويس وأفغانستان والبوسنة بدمائهم، وكان علي بن أبي طالب يقول: (إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فظنوا به الذي هو أهدى وهو أتقى وهو أهيا)، والعلماء ورثة الأنبياء، والدعاة حلفاء العلماء، فيسوغ أن نقيس الحكم ونقول: أيها الناس إذا حدثتم عن أداء دعاة الإسلام في العراق وغيره فظنوا بهم الذي هو أهدى واتقى وأليق بتاريخهم وطهرهم الملائكي وحالهم الجهادي.

ومن فروع هذه القضية أن الداعية المسلم بدأ يتعامل مع فتيان من المجاهدين أحداث الأسنان تعوزهم التجربة، ولكن دفعهم إيمانهم الوافر إلى حمل السلاح، وصاروا صدوراً وقادة بين أقرانهم، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (إذا تَصدّر الحدث فاته علمٌ كثير)، ومن إفرازات الحداثة: أن تراه عنيداً عند المفاوضة والتفهيم مستسهلاً العنف والقتل، ميالاً إلى اعتقاد صوابه المطلق وخطأ المقابل، وقد يمزج ذلك بكلمة غليظة ونبرة استعلاء، وكل ذلك من الغرور الذي يصاب به صاحب العمل الصالح إذا غفل عن الاستعاذة من الشيطان، والحل لهذه الظاهرة السلبية أن يتصدر الكبار، أهل الرجولة والحفاظ على الأعراف، ممن وَخَطَ الشيب لحاهم، ولقنتهم أمهاتهم احترام الكبير والمخلص، وهذا أمر قريب المنال إذا نوى الجميع نوايا الصلاح والإصلاح.


قُدسية الدماء البيضاء

إنَّ في درس " محفوظ " الثاني عبرة وافية، يوم امتص الصدمة الدموية فلاذ بالتعقل ونظر إلى سوء المنقلب إذا سلك مسلك الهابطين، فخاف من نتيجة داكنة اللون مرة الطعم، فكان منه العفاف، فهذا هو الصبر الأصعب، لأن التخطيط التربوي كانت تنضجه ظروف هادئة، بينما في الصبر الثاني دماءٌ واستفزاز وفراق أحبة، والعراق اليوم فيه مثل ذلك الاستفزاز، واللائق أن نحرص على تقديم نموذج في العمل الإسلامي عالي الـمـواصفات، منطقي المحاورات، عقلاني التعامل مع الشذوذ والنشاز والدروب العوجاء والخطوات العرجاء، ومن أول ذلك أن نعترف بان مشكلتنا ليست مع الجمهور الأعظم من دعاة الإسلام على اختلاف مسميات جماعاتهم وطرائق فهمهم، وإنما هي مع مجاميع صغيرة خارج القيادة الجهادية يسودها التوتر دون الفكر، وتسيرها مصالح خاصة وفوضوية، وقد تصدرت قبل أن تنضجها تربية أو تسعفها تجربة أو يحتضنها محراب، وكان ابن عقيل الفقيه الحنبلي قد قال: ( نعوذ بالله من طفيلي تصدَّر بالوقاحة )، فأعراف المؤمنين تأبى أن تجعل المستعجل مكافئاً موازياً للمخضرمين والسادة النجباء وأشراف الجهاد العشائري وتلامذة المنابر الشرعية، وفي تاريخ الجهاد السابق في أقطار أمة الإسلام شيء من هذا، فنشأت من فقهاء المجاهدين تحذيرات لنا ووصايا تستند إلى تجاربهم، كالذي كان من الفقيه الليبي الأديب أبو بكر بن لطيف الذي نجهل سنة وفاته، ولكنه عاصر الجهاد ضد الطليان، فقد( كان محباً لاقتناء الكتب، ميالاً إلى حديث السياسة، ربما لأنه كان من أسرة ذات صلة بالبلاط العثماني، وكان يكره الفاشيين، ويثني على المجاهدين بخير، ويلعن الفرقة التي مكنت للطليان .. وكان يرجع خذلان المجاهدين للزعماء الجهلة ذوي الأنفس المريضة )( 1 )، واكتشافه هذا لجريرة الزعماء الجهلة إنما هو مَعلم من معالم تطور فقه الدعوة وميزان دعوي مهم في الكتلة التجريبية الدعوية، احتاجته الدعوة مراراً لبيان عذرها وتعيين المطلوب وترشيح نفسها للقيادة، وهو جذر ما ورد في الفتوى حول الغزو الأميركي للعراق من انعدام ( الأمن الجهادي ) والقول بعدم عينية الجهاد، لمزاجية"صدام"وانحراف رجاله وضباط مخابراته، والخوف من تلاعبٍ بمصير المجاهدين الوافدين من خارج العراق، وقد كان ذلك، ويقارن ذلك أيضاً بأحوال الجهاد الأفغاني وجناية بعض قياداته عليه، ممن أبدى جهالة بالغةً وأنانية.



رد مع اقتباس
قديم 11-20-2004, 12:31 AM   رقم المشاركة : 4
الكاتب

abo _mohammed

المشــرف العــــام

abo _mohammed غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









abo _mohammed غير متواجد حالياً


وما زال هذا الجهر بمثل هذه الحقائق غامضاً عند المستعجلين المتهورين، ولا يفهمونه، بل ولا يريدون فهمه، وهذا مظهر من مظاهر محنة دائمة في المجتمع الإسلامي منذ القديم، إذ أن وعي الدعاة ممن نزل إلى الساحة ولبث طويلاً مع العلم والتعليم والإصلاح يترجمه قول صريح لهم يخرج مخرج النصيحة للآخرين، ويكونُ صادراً من أعماقِ بيئة التجريب والمعاناة، لذلك لا يفهمه الطارئ والهامشيُّ والظاهريُّ ومن يلبثُ عند السطح ولا يغوصُ، فيستغربه وينكرهُ ويُكذبهُ، وتلك هي الملاحظة التي لاحظها ابن عقيل الحنبلي ثانيةً فقال: ( يخطر بقلوب العلماء نوعُ يقظة، فإذا نطقوا بها وبحكمها: نفرت منها قلوب غيرهم، ولو من العلماء، ولا أقول: العوام)( 2 ).

فالدعاة من العلماء لهم طول تدبر، وتجريب، وغوص إلى أعماق القلوب وأفعالها ، فيرون ما لا يرى المستعجل، وإذا أرادوا وصف ذلك لعلماء الظاهر فضلاً عن العوام: استغربوه وأنكروه، وقد لقنتنا الأيام درساً: أن نترفق في عرض المفاهيم الحساسة والتجارب الدقيقة على من لم يحز مثل معاناتنا ومعانينا، ولكنَّ مأساة الدماء هي التي تجبرنا على أن نتجاوز الخطوط الحمراء والحدود الحساسة ، ونعلمُ أنَّ أنوفاً ستشمخ إذا قرأت أحرفنا هذه، أو تتوجه إلى صدورنا رصاصات غبية ربما، ومع ذلك نجهرُ بمفاد الوعي تشجيعاً لبقية العقلاء أن يجهروا بالإنكارِ كجهرنا، لعلّ متهوراً يتئدْ.
أهو أمرٌ صعبٌ على المتهورين أن يلحظوا توجه خطة أعدائنا من اليهود والأميركان نحو استدراج المؤمنين إلى العنف وقتل المدنيين وإلهاء الدعاة بعضهم بدماء بعض من أجل عرض صورةٍ مشوهةٍ لمعنى الإسلام والدعوة ينفرُ منها المسلمون والكفار معاً؟؟؟
إنَّ التفجيرات التي تقتل المدنيين في فرنسا وإسبانيا وأميركا هي أعمالٌ يستحيلُ أنْ يتم تخريجُها تخريجاً فقهياً سليماً على قواعد الجهاد الإسلامي، والنَفرة التي حصلت في قلوب البشر كلهم من هذهِ الأعمال العنفية هي نتيجةٌ كانت مقصودة عند من خطط لها من رجال المخابرات الأميركية والموساد الذين حرصوا على تشويه صورة الإسلام والمسلمين وكلفوا عملاء مسلمين ليستدرجوا شباباً مخلصين في قمة الإخلاص من أصحاب النوايا الجهادية الذين يعوزهم الوعي والتجريب والفقه ووجدوا فيهم مادةً خاماً يوجهونهم من وراء الستار وهم غافلون، وأحداث الجزائر المريرة التي جرى فيها ارتكاب مذابح بشعة قد ثبتَ ثبوتاً قطعياً عند أهل التتبع أنَّ رجال المخابرات الفرنسية وغيرها هي التي كانت قد خططت لها ومولتها وأغرت الشباب الساذج بارتكابها، وعلى أنغام الأنين الجزائري كانت عيون كبار المخططين الأمنيين تنعسُ لتنامْ.

أوَ ليسَ لمستعجلي العراق اتعاظٌ بما حصل من توبةِ الجماعات الجهادية في مصر وتخليها عن طريق القتل العشوائي؟ فقد بات من المعروف المشتهر أنَّ قيادات مجموعات المجاهدين قد نقدت نفسها نقداً صريحاً، ودونت ذلك في كتبٍ منشورة خُلاصتها أنهم كانوا على خطأٍ حين ابتدعوا طريقة قتل الشرطة والسائحين والدخول في مصادمات جزئية مع الحكومات، وآمنوا في الآخر بمثل ما آمن"الإخوان"عند أول خطواتهم باتباع طريق التربية التدريجية وإصلاح المجتمع وحشد الطاقات واستعمال وسائل التخصص والعلوم والمعرفة والسياسة من أجل تكوين كتلةٍ ضخمةٍ في المجتمع ذات فكرٍ وتنظيمٍ وممارسة منهجية خططية، للقيام بضغطٍ شديدٍ عبرَ الإعلام والبرلمان والمنابر السياسية من أجل تطبيق أحكام الإسلام وحفظ مصالح الأمة، فإن نجحوا فبها، وإن ظلمهم ظالمٌ وحجب حق هذه الأكثرية الإسلامية: صاروا عندئذٍ فقط إلى استعمال الأذن الشرعي بإزاحة الظالم، فأين هذا الطريق العقلاني المنهجي من قتل شرطي بريء صاحب عيال، وانفجار سيارة مفخخة في ساحة مزدحمة تـترك مئة يتيم يصرخون؟؟ والطرق الخارجية في العراق تملؤها أرتالُ المدرعات الأميركية، فلماذا تتركهم يا سليل الخوارج وتتحول إلينا نحنُ أصحاب رأفة القلوب والدواخل؟؟؟ فلولا سارعَ إلى الانتفاع بالموعظة تقيٌ يختلي مع نفسه يسألها ويحاسبها ويفحص وفق الموازين الإيمانية والشرعية أوامر المفتي الفتى ابن العشرين إليه!!!


إنَّ"الفتى المفتي"هو نقطة الوهن في النسيج العراقي الدعوي الحاضر، ونحن نشكوه إلى الله، وما تقدمّ عن علمٍ ولا لسان، وإنما قدمهُ سلاحٌ بيدهِ، وقلة إنصافٍ أخافت المتعبين من رهقٍ جديد فتركوه يصول، وتلك هي قصة مأساتنا.

ومن أقبح الإفتاء المتداول: أنَّ المتهورين يقولون أنهم يقتلون الأبرياء في مثل هذه الأعمال العنفية التي يزعمون أنها جهادية ثم يبعث الله هؤلاء الأبرياء على نياتهم، ويجادلون بان هذا الاستنباط هو فرع من الفتوى المجمع عليها بجواز ضرب المسلمين إذا تترس بهم الكفار وجعلوهم درعاً يتقون به ضربة جيش المسلمين، مما هو مشهور في كتب الفقه. وهذا اجتهاد غريب وتكلف يدل على فهم معوج متسرع، لأن الأمور تدور مع عللها، وفتوى التترس إنما تكون حين يتأكد لدى القائد العسكري الإسلامي أنه إذا لم يضرب جيشَ الكفار المختلط بأسارى المسلمين ومستضعفيهم فإن جيش الكفار سيقـتحم ديار المسلمين ويقتل من المسلمين أضعاف أضعاف عدد الأسرى الذين تترس بهم وجعلهم درعاً مانعاً، وقد أقام المفتون القضية مقام الضرورات، ورأوا موازنات المصالح فأجازوا قتل العدد الصغير من المسلمين من اجل نجاة العدد الكبير والدفاع عن دين الأمة وبيضة الإسلام وشرف الإيمان، قالوا: ثم يبعث الله المستضعفين القتلى على نياتهم، فهذه فتوى ضرورة إذن لا يتحقق وصفها في حالنا الحاضر عندما تفجر السيارات المفخخة في الشوارع المزدحمة، وهناك قياس مع الفارق كما يقول الفقهاء، إذ لا ضرورة اليوم، والمجال مفتوح لضرب العدو مباشرةً دون التورط بدم مسلم، وكل الأمر قائم على مراوغة يقودها هوى النفس.
==========================
( 1 ) أعيان علماء ليبيا - ص407.
( 2 ) الآداب الشرعية 1/314.


رد مع اقتباس
قديم 11-20-2004, 12:33 AM   رقم المشاركة : 5
الكاتب

abo _mohammed

المشــرف العــــام

abo _mohammed غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









abo _mohammed غير متواجد حالياً


عواصف الفكر صناعة أَسَّسها السلف

* الاستدراك السادس: إتقان الإبداع ، وجعل تعليمه علامة بارزة في منهجية تربيتنا الدعوية ، فقد ذهب عهد الاكتفاء بالتلقين المجرد وحمل الاتباع على التقليد المحض، وغرس الإعجاب بالرؤساء وانتظار أوامرهم وتعليماتهم، فتلك اتكالية تفسد التلامذة وجنود الدعوة، وفيها تفويت لفرص جزئية كثيرة طيبة مباركة مبثوثة في زوايا الساحة العريضة يعلمها الداعية القريب منها ويؤذن له أن يستثمرها إذا ربيناه على النزعة الابتكارية الإبداعية وجعلناه يثق بنفسه ويقتحم المجهول ، ولا يعلم تلك الفرص الصغيرة من كان قائداً يعتني بالمجمل والعموميات والأعمال الجامعة، مهما كان هذا القائد ذكياً ألمعياً ملهماً، بل من الظلم أن نكلفه بذلك حتى لو استطاع، لأنها تشتت جهده وتذهله عن ضبط مسيرة كل الكتلة الدعوية، وقد جعل الله لكل شيء قدْرا، وأقدار القادة أن يتعاملوا مع كبار القضايا، وأقدار الاتباع أن يتعاملوا مع الأمثلة الجزئية والصور المتناثرة، حتى صار التنفيذ والإبداع فيه صنعة خاصة لجيل من الدعاة كثير العدد في كل بلد، ولو أردنا من القياديين ممارسة هذا التنفيذ لأشكل الأمر عليهم وما عرفوه، والعكس يصح أيضاً، فإنك لو طلبت من التنفيذي رؤية شمولية للساحة أو نظراً استراتيجياً لعجز وأتى بالغرائب، لضعف صنعة التحليل والتركيب لديه، ولافتـقاده عناصر الربط بين الـمـقدمات والنتائج، وكل ميسرٌ لما خلق له، والتكامل بين الفريقين أسلك سبيلا.

لكن من شرط وصول الجميع إلى الإبداع والمهارة فيه أن نوفر مجالاً حوارياً جدلياً حراً لكل رهطٍ من الأقران، بحيث نعفيهم من ضمانهم لصواب أقوالهم، بل ندعهم يفكرون بصوتٍ عالٍ، ويذكرون ما يظنونه صواباً، من دون منح أنفسنا حقاً في لومهم وتقريعهم وإعابة منحى تفكيرهم، فإنَّ الإبداع لا يتأتى مع الكبت والزجر والسخرية ، مما يجعلنا نسوغ طريقة الإبداعيين في"العصف الذهني"، وهي جلسات يحضرها العشرون والثلاثون، ونرفع عنهم الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ، ونتركهم يفكرون في القضية بعد القضية تفكيراً لا تقيده أوصاف الموضوعية ولا حدود المنطقية ولا ارتباطات الواقعية أو إذعانٌ لأرقام إحصائية، لينتج من التفكير الفوضوي الخيالي المطلق الجزافي عددٌ كبير من الاقتراحات والأفكار الجزئية حول تفاصيل القضية المبحوثة، ثمَّ بعد ذلك ترجع المجموعة بقيادة الأرشد الأفقه إلى تصفية رُكام القول، واستخلاص ما هو منطقيٌ منهُ ويتجانس مع حقائق المحيط والنمط المنهجي، وهذه طريقةٌ عامرةٌ في العالم، ضامرةٌ في العراق، لأنَّ الحاكم الفردي شاء أن يحرمَ أهل العراق من أدوات الاجتهاد والإبداع، لئلا يتمردوا عليه ويحَدّثوا أنفسهم بثورةٍ عليه، فَساقهم سَوقاً، وحرمهم من حوارٍ ونقدٍ ذاتي، ومنع التناجي الخيري العلمي، فحصل الانغلاق وتحجرت أنماط التبعية العمياء التي لا يؤذن لها أن تقارب رُشداً أو نوع ابتكار، ومن اللائق أن تنتبه التربية الدعوية لمثل ذلك، فتمارس أساليب الإبداع داخل الصف، ثمَّ مع بقية أنصار الدعوة من رواد المساجد والمتحلقين حولها في دائرة الهالة الواسعة المُنيرة حول قمرها الفكري، وبذلك يكون من الممكن أن نفجر ما في دواخل أنفس أجيال المؤمنين العراقيين من طاقةٍ كامنةٍ تتخذ من الاختراع والإتيان بالطريف ديدناً وطريقةً للاستدراك على ما فات، ثمَّ اللحاق ببقية الشعوب والأمم والسير بموازاتها والاقتباس من نجاحاتها.


وطريقة " العصف الذهني " عند أهل الإبداع صحيحة في مجملها، ولها عاضد من التجريب الذاتي في ممارساتنا، ثمَّ وجدتُ لها أصلاً وجذراً في طرائق أئمتنا من السلف المجتهدين المبدعين، وذلك واضح فيما ( قال سفيانُ بن عُيينة: مررتُ بأبي حنيفة وهو مع أصحابه في المسجد وقد ارتفعت أصواتهم، فقلتُ: يا أبا حنيفة: هذا في المسجد والصوت لا ينبغي أن يُرفع فيه؟
فقال: دعهم، لأنهم لا يفقهون إلا بهذا)( 1 ).

والشاهدُ في قول أبي حنيفة: لأنهم لا يفقهون إلا بهذا، فهو صريحٌ في أنه يؤمن بأنَّ رفع الصوت ضرورة لحصول ومضات الفقه، ورفع الصوت هنا إنما هو كناية عن كتلة من التحديات والاعتراضات المتأججة بين أصحاب أبي حنيفة، والردود والتوهيم والافتراق والموافقة، بحيث ينطق الكل في وقتٍ واحد، أو تعاقبٍ سريع، فتنشأ ضوضاء وصيحات مختلطة، يبرز من بين عنفوانها الصواب الإبداعي الاجتهادي، وتلك هي صفة "العصف الذهني" لمن ذاقها، وهي بضاعة إسلامية إذاً رُدتْ إلينا، ونحن أولى بها من أميركي وأوربي وياباني.


وليس من وصف الإبداع الناجح أن يتناول حتماً قضيةً كبيرةً أو أن يكتشف سراً خطيراً، بل في كثير من يوميات الحياة المنسابة قابلية لأنْ تجر صاحبها إلى إبداع فيها، ومن ابرز أمثلة هذا الإبداع الذي تجلى لي عبر اطلاعاتي التاريخية خبر فقيهٍ مصري قبل قرنين كان يحرص على تعليم العامة السُذج البسطاء أُصول الإيمان، هو الشيخ العلامة مصطفى العقباوي المالكي، فقد كان( إنساناً حسن الأخلاق، مقبلاً على الإفادة…متورعاً متواضعاً، ومن مناقبه أنه كان يحب إفادة العوام، حتى أنه كان إذا ركب مع المكاري: يعلمه عقائد التوحيد وفرائض الصلاة)( 2 ).
وقد جهل كثير من عامة أهل العراق، ولا ينفع إلا أن ننزل إليهم نعلمهم في أسواقهم ومجالسهم وبيوتهم، ونبدي خطة إصلاحية تربوية تعليمية وعظية تعيد الناس إلى الإيمان والأخلاق والصلاة، وأن نرحل إلى البادية والقرى، وأن ندخل المحلات الشعبية الفقيرة، ونمنع الدعوة أن تكون نُـخبوية تُربي المثقفين فقط.
لكن المكاري البغدادي كان يوماً ما صاحب فقه، وكانت بعض أزقة بغداد القديمة تنقطع إذا نزل المطر الغزير وتتكون بُحيرة تمنع مرور الناس، فتنشط مهنة الحمالين الذين يحملون العابرين على ظهورهم، وكان الأخ أبو أديبة سلفي النزعة، وشاركني في الأخذ عن شيخنا عبد الكريم الصاعقة، فلما استوى على ظهر الحمال قرأ"سُبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين"، وذهل عن أنَّ هذا المكاري من أهل الفقه-وليس مثل مكاري مصر-، فقال له الحمال المكاري التاكسي: أعِد، فأعاد الدعاء، فقرأ الحمال"وإنا إلى ربنا لمنقلبون"ثم أمال كتفه، وقلب أبا أديبة في الماء، وكان أستاذنا شاعر الإسلام وليد الأعظمي يروي لنا هذه النكتة الطريفة مراراً، فإن كانت حقيقة فهي إبداع من المكاري العراقي يحملنا على تربيته وتنظيمه واعتماده في خطتنا الدعوية، وإن كانت مخترعة فهي إبداع وليدي يحملنا على أن نقرأ شعره ونعظ أنفسنا به ونعيد سيرته، فقد كان-رحمه الله-جليس الفقراء ومعلمهم، وأحرى أن نجعل سيرته منهجاً دعوياً يصحح معادلة النخبوية.

====================
( 1 ) الآداب الشرعية 3/397.
( 2) تاريخ الجبرتي 3/145.

المصدر:
Cant See Links


التوقيع :



قال تعالى :
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
[فصلت:33]






رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:00 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.4, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir