عرض مشاركة واحدة
قديم 02-11-2004, 10:46 PM   رقم المشاركة : 2
الكاتب

الزوار


الملف الشخصي








وقال لي أستاذ للغة العربية في المدينة، وهو كاتب وشاعر، كثيرا ما أسمعني، خلال الجولة، من عيون الشعر، مما يحفظ ومما ينظم، إنه يفضل الشهادة، وأن يجتز عنقه، أو يفصل رأسه عن جسده، على أن يقبل بأن ينتهك علج أمريكي كافر، كما يصف جنود الاحتلال، شرفه، أو يطلع على ستر نساء حيه أو مدينته، مشيرا إلى أن غرور القوة لدى الأمريكان وجهلهم بالعراقيين، هو الذي سيقودهم إلى حتفهم .

مما جمعته من معلومات، من مصادر مختلفة، بطرق متباينة، بتّ أميل إلى أن المقاومة في الفلوجة مقاومة لا ينتظمها هيكل محدد، فهي عمل تقوم به جماعات صغيرة مختلفة تنظيميا، قد تكون علاقات القرابة، أو علاقات الجيرة في الحي أو الشارع أو الزقاق، هي ما يربط أفرادها ببعض، لكن ثقافة تكاد تكون موحدة تجمع بين أطرافها، هي ثقافة الجهاد والمقاومة وحب الشهادة في سبيل الله ثم الوطن. وتحصل تلك المجموعات على السلاح بطرقها الخاصة.. أفرادها يعملون في النهار في مهن مختلفة، كثير منها مهن بسيطة، وينخرطون منذ بداية الغروب في المقاومة، لكن ثمة من الميسورين من تفرغ للمقاومة ليلا ونهارا، في حين تفرغ آخرون لتطوير السلاح وتصنيعه بوسائل محلية، استفادة من خبرتهم السابقة في القتال أو في التصنيع العسكري. أهل الفلوجة يحدثونك بإسهاب عن عمليات ناجحة للمقاومة ضد قوات الاحتلال.. الجميع يحدثونك وكأنهم أعضاء في المقاومة، أو كأنهم خبراء عسكريون متمرسون.. "في هذا المكان طحناهم طحنا".. "في هذا المثلث، بين الجسرين، أذقناهم الويل، وقطعنا رؤوس الكثيرين منهم".. "طائرات الشينوك الأمريكية المتطورة أسقطنا عددا كبيرا منها وتركنا (الرئيس الأمريكي جورج) بوش مذهولا".

هذه الكلمات، أو كلمات قريبة منها، سمعتها مرات ومرات في الفلوجة. وكان أكثر ما يجمع بين قائليها الشعور بالفخر والاعتزاز الكبير بما تحققه المقاومة من نتائج، والشعور بالرضا أن يكون المرء من أهل الفلوجة.. ألم أقرأ في أماكن عديدة مكتوبا على جدران المدينة "ارفع رأسك إنك من أهل الفلوجة".

سلاحك شرفك "سلاحك شرفك فلا تلقي شرفك".. "هبوا يا شباب العراق الشرفاء قاوموا الأمريكان".. "لا شرف بلا جهاد".. "عاش مجاهدو الفلوجة الأبطال الشرفاء".. شعارات كثيرة منتشرة في مدينة الفلوجة تقرن الجهاد والسلاح بالشرف.. فالغيرة على الشرف، وحب الشهادة طلبا للعزة والكرامة، ورفض الغرباء الغزاة، وهي مفاهيم دينية وقبلية في ذات الوقت، يمكن اعتبارها مفاتيح شخصية ابن الفلوجة، ويمكن من خلالها تفسير ثورة المدينة العارمة على المحتل، وإجماع أبنائها على المقاومة، كما يمكن من خلالها أيضا تفسير معاناة الاحتلال الأمريكي مع هذه المدينة الصغيرة الثائرة.

كان اللقاء بمقاومين في الفلوجة أحد أهم أهدافي من زيارة المدينة.. كنت أريد أن أتحدث إليهم من دون واسطة، وأسمع منهم، وأسألهم عن أشياء كثيرة تدور في خاطري، لكن من يثق في صحفي جاء من بلد بعيد.. قواته شريكة في احتلال العراق. كنت أتفرس الوجوه، وأحاول أن أخمن إن كان محدثي من المقاومة أم مجرد ناقل خبر من أخبارها، تختلط لديه الحقيقة بالوهم، وتحجب لديه المبالغة وجه الحقيقة. كنت أجمع المعلومات، وأسمع الكلمات، وأدونها في دفتر كان بيدي، حتى انقضى النهار.. غربت الشمس، وكانت أضواء المدينة خافتة ضعيفة، بالكاد تسمح لي برؤية الزقاق، وتبصرني بمسارات المجاري والحفر الكبيرة، حتى لا أقع فيها. وفي أزقة معينة يختفي نور الكهرباء تماما، وتتشابه الوجوه، ولا يستطيع المرء "تمييز وجه صديقه من عدوه".. في واحد من تلك الأزقة شعرت بيد تحط بحنو على كتفي، وقال صاحبها: - السلام عليكم ورحمة الله. - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. - الأخ صحفي. - نعم صحفي. - أنا مصطفى من المقاومة. - يا مرحبا.. يا مرحبا.. كنت أبحث عنكم طيلة النهار، وجئتني عندما أسدل الليل ستاره. - أعذرنا فنحن في ظرف احتلال وملاحقات أمنية لا تهدأ. كانت هكذا البداية.. وغرقنا في حديث مطول عن المقاومة والإعلام وعن العمليات والأمريكان.. "نقتل مائة منهم كل شهر في الفلوجة ودوائرها على أقل تقدير".. "قتلنا منهم في عملية 10 جنود، فأعلنوا أن واحدا من جنودهم جرح.. لقد أحصى المجاهدون القتلى وسلبوا سلاحهم، لكن قوات الاحتلال أعلنت عن جرح أمريكي واحد".. "الأمريكان كذابون".. "الأمريكان يرمون جثث جنودهم في الأنهار، أو يلقونهم في الصحراء حتى تأكلهم الذئاب والجوارح للتخلص منه، بعيدا عن الإعلام".. هكذا قال لي مصطفى بكل ثقة. لم أصدق الأمر.. كان أكبر من أن أصدقه، لكن مصطفى أدرك ما يجول بخاطري فقال "قد لا تصدق ما أقوله لك، لكن يمكنني أن أوفر لك بعض الصور في وقت لاحق.. بل يمكن أن آخذك إلى بحيرة الثرثار، ويمكن أن تشاهد بنفسك بعض بقايا جثث الأمريكان، وقد بدأت تتحلل.. هم يرمون جنودهم في الوديان ومقالع الرمل والحصى أو في بحيرة الثرثار".



وذكر أسماء مواقع كثيرة توجد فيها جثث للجنود الأمريكان، لكنها غابت الآن عن ذاكرتي، إذ كان الظلام لا يسمح لي بتسجيل كل ما أسمعه على ورق. قال مصطفى إن ما يعلن الأمريكان عن قتله أو جرحه من قواتهم إنما هم الجنود الحاصلون على الجنسية الأمريكية، أما الذين لم يحصلوا عليها بعد، فيرمونهم في أماكن مختلفة، حتى صار الناس، في أماكن ذكرها لي ونسيتها الآن، يضجرون من روائح الجثث المرمية.. قال إنهم يرمون الجثث بالطائرات، أو يفرغونها من العربات في أكياس، دون أن يدفنوها، ويولون هاربين. وذكر أن أهالي بعض المناطق، حين اكتشفوا جثث العشرات من الجنود، ذهبوا للأمريكان لإعلامهم بما عثروا عليه، لكن قوات الاحتلال أنكرت أن تكون الجثث عائدة لجنودها. ومضى مصطفى يقول معددا عمليات المقاومة "في منطقة القرطاسي سرية بأكملها أبدناها.. نصبنا لها كمينا وأبدنا كل من فيها". ويضيف "أسقطنا 8 مروحيات على الأقل، منها طائرة نقل ضمت أكثر من 60 جنديا كانوا في عطلة، وقد قتلناهم جميعا، لكن الأمريكان اعترفوا بمقتل 15 جنديا فقط". وأضاف "نقتل ما لا يقل عن مائة جندي في الشهر". "معسكرات الأمريكان في الحبانية وفي معسكر طارق وقرب مصنع العامر، أو صدامية الفلوجة (بحسب ما أذكر) نرجمها كل يوم بالهاونات وبالصواريخ فنقتل من نقتل منهم، وننغص حياة الباقين".

ويتحدث مصطفى عن عملية نوعية، وقعت قبل نحو شهر، واصفا إياها بـ"الكارثة" على قوات الاحتلال. قال إن عدد القتلى الأمريكان فيها تجاوز الـ400 قتيل، وأشار إلى أن المقاومة استخدمت فيها أسلحة نوعية، وقد شعرتُ من حديثه عن الأسلحة النوعية بأنه يلمح إلى أن المقاومة استخدمت فيها أسلحة، قد تكون كيمياوية، وحين سألته عن ذلك رفض النفي أو التأكيد، وتركني أسبح في أوهامي وخيالاتي.

ويفخر مصطفى بأن المقاومة نجحت في إخراج قوات الاحتلال من مدينة الفلوجة، وأنها حصرتهم في معسكرات على أطرافها، تتعرض للقصف باستمرار، كما قال. وأضاف "جاؤوا لفرض حظر التجول على المدينة، ففرضناه عليهم، وسنخرجهم من العراق بأسره بالقوة"..

كانت تلك من آخر الكلمات، التي سمعتها من مصطفى، لكني سمعتها عشرات المرات من آخرين قبله. ودّعت الرجل الذي صافحني بيد خشنة، وسلكت طريق العودة، بعد أن سمعت انفجارا قويا لم أتبين كنهه.. فلعل المقاومة بدأت عملها، وطريق العودة إلى بغداد بات محفوفا بالمخاطر، من قنابل المقاومة على جنبات الطريق، ومن رصاص الأمريكان الطائش الهائج، لكنني اخترت مهنة المتاعب، وآن لي أن أتمتع بما في المغامرة من مشاعر متناقضة، من جرأة وخوف، وحب فطري للسلامة، وحب فطري لمعرفة المجهول.. وصلت بغداد وقد تقدم الليل.. مروحيات تجوب السماء، وطلقات رصاص ثقيل، وتفجيرات، تسمع من مكان بعيد، كانت تهدهدني، فنمت على أنغامها نوما عميقا.

صحفي اعلامي مسلم


رد مع اقتباس