عرض مشاركة واحدة
قديم 08-04-2020, 12:26 PM   رقم المشاركة : 18
الكاتب

عمر نجاتي

الاعضاء

عمر نجاتي غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









عمر نجاتي غير متواجد حالياً


رد: كتاب آداب المريدين



(فصل) ولا تتم المجاهدة إلا بالمراقبة.

وهي التي أشار إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان فقال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب سبحانه عليه، واستدامة لهذا العلم مراقبة لربه، وهذا هو أصل كل خير، وإنما يصل إلى هذه الرتبة بعد المحاسبة وإصلاح حاله في الوقت، ولزوم طريق الحق وإحسان مراعاة القلب بينه وبين الله تعالى، وحفظ الأنفاس مع الله عز وجل، فيعلم أن الله تعالى عليه رقيب، ومن قلبه قريب، يعلم أحواله ويرى أفعاله، ويسمع أقواله، ولا تتم أيضًا إلا بمعرفة خصال أربع:

أولها: معرفة الله تعالى.

والثانية: معرفة عدو الله إبليس.
والثالثة: معرفة نفسك الأمارة بالسوء.

والرابعة: معرفة العمل لله تعالى.

ولو عاش إنسان دهرًا في العبادة مجتهدًا ولم يعرفها ولم يعمل عليها لم تنفعه عبادته، وكان على الجهل ومصيره إلى النار، إلا أن يتفضل الله عليه برحمته.

فأما معرفة الله عز وجل، فهو أن يلزم العبد قلبه قربه عز وجل، وقيامه عليه وقدرته عليه وشهادته وعلمه به، وأنه رقيب حفيظ، وأنه واحد ماجد، لا شريك له في ملكه، وأنه عندما وعد صادق، وعندما ضمن واف، وعندما دعا إليه وندب إليه مليء، وله وعد ينجزه، ووعيد صادق ينفذه، ومقام تصير إليه الخلائق، ومصدر يتصرف من عنده، وله ثواب وعقاب، ليس له شبه ولا مثيل، وأنه كاف رحيم ودود سميع عليم، وأنه كل يوم هو في شأن، لا يشغله شأن عن شأن، يعلم الخفي وفوق الخفي، والضمير والخطوات الوسوسة والهمة والإرادة والوسواس والحركة والطرفة والغمزة والهمزة، وما فوق ذلك وما دون ذلك، مما دق فلا يعرف، وجل فلا يوصف، مما كان وما يكون وأنع عزيز حكيم، وقد استوفينا ذلك في باب معرفة الصانع من قبل.

فإذا لزم هذا قبله في اليقين الراسخ والعمل النافع، ولزم ذلك كل عضو منه وكل جارحة وكل مفصل وعرق وعصب وشعر وبشر، وكذلك يتيقن أن الله تعالى قائم على ذلك عالم به، أحاط به علمًا لا تعزب عنه عازبة، وأنه خلقه فأحسن خلقه، وصوره فأحسن صورته، وثبت جميع ذلك في قلبه، وصح به عزمه وأكمل عقله، وثبت حينئذ فيه المحاسبة، ووصلت إليه المعرفة وقامت عليه الحجة، وكان في مقام من الله شريف، والحذر يصحبه في ذلك كله، فحفظتن جوارحه وقلبه، ولا ينال شيئًا من هذه الجملة إلا أن يقطع الأشغال كلها، إلا ما دله على هذا، والفرق لا يفارق قلبه حذرًا من سطواته، لقدرته عليه لما قد سلف، وبما يكون منه، وحياء منه لقربه منه، ولم تسقط منه إرادة، ولم تزل منه همة ولا خطرة إلا له فيه علم، فيكون العالم القائم بما يحب الله منه، والنازل له عما يكرهه منه، ولا تكون منه خطرة ولا لحظة ولا وسوسة ولا إرادة ولا حركة ظاهرًا ولا باطنًا، إلا وعلم الله عنده قائم في قلبه قبل الخطرات والحركات والوساوس وهو مقام العلماء بالله عز وجل، الخائفين العارفين الأتقياء الورعين.


وأما معرفة عدو الله إبليس، فقد أمر الله تعالى بمحاربته ومجاهدته في السر والعلانية، في الطاعة والمعصية، وأعلم العباد بأنه قد عادى الله عز وجل وعبده ونبيه وصفيه وخليفته في الأرض آدم عليه السلام، وضاره في ذريته، وأنه لا ينام إذا نام الآدمي، ولا يغفل إذا غفل الآدمي، ولا يسهو إذا سها الآدمي دائبًا مجتهدًا في عطب الآدمي وهلكته في نومه ويقظته وفي سره وعلانيته في الطاعة ليبطلها وفي المعصية ليوقعه فيها، لا يألو به خديعة وحيلة ومكرًا، مصائده الشهية اللذيذة في طاعته ومعصيته، ما يجهله كثير من خلق الله تعالى من العابدين المغرورين المخدوعين، وكثير من الغافلين، ليست راحته أن يوقع ابن آدم في معصية ولا رياء ولا إعجاب، إنما بغيته أن يرده معه حيث يرد جهنم، حيث قال جل وعلا: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر:60].

فإذا عرفه العبد بهذه الصفة فينبغي له أن يلزم قلبه معرفته في الحق والباطن، بلا غفله ولا سهو منه، فيحاربه بأشد المحاربة، ويجاهده بأشد المجاهدة، سرًا وعلانية، ظاهرًا وباطنًا لا يقتصر في ذلك حتى يبذل مجهوده في محاربته، ومجاهدته في كل ما يدعو إليه من الخير والشر ولا يدع التضرع واللجأ إلى الله عز وجل والاستعانة به في حركاته كلها ليعينه عليه، ويرى الله عز وجل من نفسه الفقر والفاقة إليه، فإنه لا حيلة ولا قوة إلا به، ويستغيث بالله عز وجل بالبكاء والتضرع، ويسأله النصر عليه جاهدًا متذللاً، ليلاً ونهارًا، سرًا وعلانية، في الخلأ والملأ، حتى تصغر في عينه مجاهدته لمعرفته، بتوفيق الله تعالى إياه، فإنه عدو مولاه، وهو أول من عصى الله من خلقه، وأول من مات من خلقه، يعني من عصاه، وكل عاص لله عز وجل ميت، كما جاء في الحديث، قال الله عز وجل: "إن أول من مات من خلقي إبليس" وهو الذي عادى أولياء الله من الأنبياء والصديقين وأصفياءه من خلقه أجمعين.

وينبغي للعبد أن يعلم أنه في جهاد عظيم، وفي قرب من الرب جل ثناؤه، ولا يوصف شرف مقامه، فليثبت ولا يعجز فإنه إن عجز أو مل فقد عصى ربه عز وجل ووقع في جهنم، وغضب الله عليه، ويكون قد أعطى عدو الله أمنيته منه، وقوى عليه لعنة الله، ولي لإرادته في العبد غاية وانتهاء إلا بالكفر بالله، فإنه إنما ينقله من حال إلى حال حتى يغضب الله عليه، فيكله إلى نفسه فيعطب ويقع في النار مع الشيطان، فلا خلق أشد على العبد منه، فالحذر الحذر، فإنه هو الورود على العطب، أو النجاة
بفضل الله ورحمته، أعاذنا الله وجميع المسلمين من شر إبليس وجنوده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وأما معرفة النفس الأمارة بالسوء، فيضعها حيث وضعها الله عز وجل، ويصفها بما وصفها الله تعالى، ويقوم عليها بما أمره الله عز وجل فإنها أعدى له من إبليس، وإنما يقوى عليه إبليس بها وبقبولها منه، فيعرف أي شيء طباعها، وما إرادتها، وإلام تدعو، وبم تأمر، وكيف خلقها خلقة ضعيفة قوي طمعها شرهة مدعية خارجة عن طاعة الله سبحانه، متملكة متمنية، خوفها أمن، ورجاؤها أماني، وصدقها كذب، ودعواها باطلة، وكل شيء منها غرور، وليس لها فعل محمود، ولا دعوى حق فلا تغرنه بما يظهر له منها، ولا يرجو بما تأمل، إن حل عنها قيودها شردت، وإن أطلق وثاقها جمحت، وإن أعطاها سؤلها هلكت، وإن غفل عن محاسبتها أدبرت، وإن عجز عن مخالفتها غرقت، وإن اتبع هواها تولت إلى النار وفيها هوت، ليس له حقيقة ولا رجوع إلى خير، وهي رأس البلاء ومعدن الفضيحة، وخزانة إبليس ومأوى كل سوء، ولا يعرفها أحد غير خالقها عز وجل، فهي في الصفة التي وصفها الله عز وجل، كلما أظهرت خوفًا فهو أمن، وكلما ادعت صدقًا فهو كذب، وكلما ذكرت إخلاصها فهو رياء وإعطاء عند الحقائق، يبين صدقها ويعرف كذبها، وعند الامتحان يرجع إلى دعواها، فليس بلاء عظيم إلا وقد حل بها، فعلى العبد محاسبتها ومعرفتها ومراقبتها ومخالفتها ومجاهدتها في جميع ما تدعو إليه وتدخل فيه، فليس لها دعوى حق، وإنما تسعى في هلاكها ودمارها، ولا توصف بشيء إلا وهي أكثر مما توصف، فهي كنز إبليس ومستراحه ومسامرته ومحدثته وصديقته.

فإذا عرف العبد صفتها فقد عرفها وهانت عليه، وذلت وقوي عليها بالله عز وجل، فإذا اجتمعت في العبد هذه الخصال الثلاث، فليستعن بالله عز وجل عليهن، ولا يغفل لأنه إذا قوي على أدب نفسه ومخالفتها عما تهوى قوي على الخصال كلها إن شاء الله تعالى، فعليه ببذل التقدم بالعزم بالله عز وجل وحده لا شريك له، ولا يميلن في هذا كله إلى أحد غير الله عز وجل، فإن لم يفعل ذلك فلا يوفق لخير ويكله الله عز وجل إلى نفسه.

فينبغي له أن يستعين بالله تعالى في هذا كله ويتبع مرضاته في جميع ما أمره الله به ونهاه، لا يريد بذلك أحدًا غير الله عز وجل، فإن فعل ذلك أرشده الله ووفقه وأحبه وجنبه مكارهه وستره بستر الأصفياء العلماء بالله، الذين بذلك نالوا العلم بالله عز وجل.

وأما معرفة العمل لله عز وجل، فإن يعلم العبد أن الله عز رجل أمره بأمور ونهاه عن أمور، فالذي أمره به هو الطاعة، والذي نهاه عنه هو المعصية له عز وجل وأمره بالإخلاص فيهما والقصد إلى سبيل الهدى على نهج الكتاب والسنة، ولا يكون في ضميره في فعله كل شيء غير الله عز وجل، ولا يكن ممن ترك المعاصر الظاهرة، وأعرض عن ترك المعاصي الباطنة التي هي أمهات الذنوب وأصولها، لأن الله تعالى ليس على هذا وعد بالمغفرة، ولا على هذا ضمن الثواب في دار الجزاء، فلا يجهدن العبد في العبادة بالظاهر بفساد النية وسقم الإرادة، فتعود إذ ذاك طاعاته معاصي كلها، فتخل به عقوبات الدنيا والآخرة مع تعب البدن وقلة المراد به وترك الشهوة واللذة، فيسخر الدنيا والآخرة، ولكن يزين طاعته بالإخلاص والتقوى والورع، ونيته بالصدق، ويحفظ إرادته بالمحاسبة، وليكن همه طلب النية الصادقة، وعزمه طلب الإخلاص والتوحيد في أقواله وأفعاله وأحواله أجمع عند أخذه في الطاعة، وإعراضه عن المعصية، حتى يثبت معرفة النية، كما يثبت معرفة العمل.


وينبغي له أن يتحرز من أن يخدعه إبليس اللعين بغوائله، ويصرعه بمصائده، ويوقعه في فخوخه، ويذهب به بكره وخدعة، فإن له مصائد مسجلات في القلوب، وغوائل شهية وظرائف لذيذة، يحسبه الجاهل نورًا ويقينًا، وهو شك وظلمة، يفتح له مائة باب من الطاعة، يريد بذلك أن يدخله في أدنى منزلة يستغرق عمله بها، فإياه ثم إياه الحذر الحذر، فإن قدر أن يتعلم خدعه كما يتعلم القرآن فليفعل، فبهذا أمره الله جل ثناؤه، فليحذره العبد في طاعته، كما يحذره في معاصيه، فإن خطر بباله أمر أو دعته نفسه إلى شيء أو تحرك بحركة فلا يعجلن دون المعرفة والعلم، وليرفق بنفسه ويترسل بترسل العلماء، ويجالس الفقهاء العالمين بالله وبأمره ونهيه، حتى يدلوه على طريق الله عز وجل، ويعرفوه ذلك ويدلوه على دوائه ودائه على ما قدمناه في مجلس التوبة.

ولا ينبغي له أن يفتر بطول القيام وكثرة الصيام والنوافل الظاهرة بلا معرفة منه بعمله، فإن كان كذلك ورأى فعله مع معرفته بنفسه وبربه وبعدوه صح فعله، فعندما يورث العلم والفقه، فما كان من علم ظاهر أو باطن ظاهر أو باطن نظر إن كان لله خالصًا صادقًا قلبه الله منه وأثابه عليه، وإن كان غير ذلك رده عليه فلم يسقط له عند ذلك فعل ولا يخفى عليه أمر، فإذا كان كلك فقد أعطى كل خلق حسن وصح عقله وثبت عمله وزاد حلمه، وكان من أولياء الله وأصفياءه الذين بالله ينظرون، وبالله يتكلمون، وبه يأخذون، وبه يعطون، ومع ذلك اتهم نفسه واتهم هواه على نفسه ودينه، واتهم إبليس، فحينئذ اتهم مع ذلك معرفته بنفسه على معرفته بها.







آخر تعديل عمر نجاتي يوم 08-04-2020 في 12:34 PM.
رد مع اقتباس