عرض مشاركة واحدة
قديم 08-04-2020, 11:46 AM   رقم المشاركة : 9
الكاتب

عمر نجاتي

الاعضاء

عمر نجاتي غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









عمر نجاتي غير متواجد حالياً


رد: كتاب آداب المريدين



[(فصل: في آداب الفقير في فقره)]

فينبغي للفقير أن تكون شفقته على فقره كشفقة الغني على غناه، فكما أن الغني يفعل كل شيء ويجتهد حتى لا يزول غناه، فكذلك ينبغي للفقير أن يفعل مثل ذلك حتى لا يزول فقره، فيسأل الله عز وجل زوال غناه إلى فقره، أو يتعرض بالمعايش والاكتساب والأسباب للاستغناء، والتكثر بالدنيا للعيال، وعفة النفس عند الضيقة.

ومن شرط الفقير أن يقف مع كفايته، ولا يأخذ فوقها بحال، ويكون أخذه لذلك القدر امتثالاً لأمر الله تعالى، وخوفًا من الوقوع في إثم قتل النفس، قال الله عز وجل: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} [النساء: 29] لأن منعه لنفسه حقها حرام، وهو القوت من الطعام والشراب والكسوة والقدر الذي تقوم به البنية، ولا يضعف عن أداء الأوامر من الاتيان بشرائط الصلاة وأركانها وواجباتها عليه، ويترك ما هو حظها، فإن كانت قسمته إليه من غير أن يكون هو فيه بفعل الله عز وجل، فلا يتعرض للحظ أبدًا إلا أن يكون مريضًا فيوصف له شيء من الحظوظ، فيتناوله على وجه التداوي، فيصير الحظ حينئذ حقًا في حال مرضه، كالقوت في حال صحته.

وينبغي أن يكون استلذاذه بفقره أكثر من استلذاذ الغني بوجود غناه.

وينبغي له أن يؤثر ذله وخموله وعدم قبول الناس له وقصدهم إليه وازدحامهم لديه.

ومن شرطه أن يكون قلبه أقوى بصفاء الحال عند خلو يده من المال، فكلما قل الفتوح كثر طيب قلبه وقوته ونوره، وازداد فرحه بشعار الصالحين، وأما إذا أظلم ذلك قلبه وأوحشه وأسخطه على ربه، فليعلم أنه مفتون قد أحدث في فقره ذنبًا عظيمًا، فليتب إلى الله عز وجل ويستغفره، ويخلد إلى التفتيش والتنقير ولوم النفس، ومن حق الفقير أن يكون كلما كثر عياله كان قلبه في باب أمر الرزق أسكن وبربه أوثق، يتمثل أمر ربه في الكسب لهم في الظاهر، ويسكن إلى وعد ربه في الباطن، ويقطع بأن لهم رزقًا عند الله قد وعد به وقدره، وهو سائقه إليهم على يده أو يد غيره، فليتنح من الوسط ولا يكون فضوليًا، فيدخل بين الخلق وخالقهم، بل يمتثل الأمر فيهم، ولا يعترض ولا يسخط ولا يتهم الرب، ولا يشك في وعده، ولا يشكو إلى أحد، بل يكون شكواه إلى ربه وإنزال حاجته به عز وجل، وكلامه وسؤاله له عز وجل في توفيقه بالصبر وأداء الأمر في حقهم، والرضا بما قضى عليهم بإضافتهم، وإلزامه له مؤنتهم، ويسأله تسهيل رزقهم وتيسيره، فهو قريب مجيب، إنما يبتلى عبده ليرده بالبلية إليه عز وجل، لأنه يحب الملحين له بالسؤال، لأن بالسؤال يتميز الرب من المربوب والسيد من العبد والغنى من الفقير، ويخرج العبد من الكبر والاستنكاف والتعظيم والنخوة إلى التواضع والذلة والافتقار، فإن تحقق ذلك من العبد تحققت الإجابة سريعًا عاجلاً مع ما يدخر له من الثواب في العقبى.


ومن آدابه: ألا يكون له هم الوقت المستقبل، بل يكون بحكم وقته لا يتطلع للوقت الثاني، بل يحفظ الحال وحددها وشرائطها وآدابها مطرقًا غاضًا عما سواها، لا أعلى منها ولا دونها، ولا يشده إلى حال غيره، ربما كان هلاكه فيها وهي لأهلها سلامة ونعمة، كالأغذية فمن الأغذية ما يزيد الشخص عافية ولآخر سقمًا وبلاء، فلا ينبغي للمريض أن يتناول شيئًا منها إلا بأمر الطبيب، فكذلك ينبغي للفقير ألا يختار حالة لنفسه حتى يدخل فيها من غير أن يكون هو فيها، بفعل المولى عز وجل قدرًا محضًا وإرادة مجردة، لا يحل نفسه في شيء من الحالات والمقامات وينزلها به فيضل ويردى، حتى يأتيه أمر الذي أمات وأحيا، وينقله منها فعل الذي منع وأعطى، وأفقر وأغنى، وأضحك وأبكى، لأن ذلك أليق به وإلى ربه أقرب وأدنى، هكذا تقدم ومضى أمر من سلف من أولى العلم من أهل الطريقة، فيما خلا فيهم الاقتداء، وإلى رب الخليقة المنتهى.


ومن أدب الفقير: أن يكون مستعدًا لورود الموت متهيئًا له منتظرًا مترقبًا في الساعات كلها ليكون ذلك عونًا له على الرضا بفقره وحمل ما حل به من الأذى، لأن به يقصر الأمل وتنكسر النفس ويزول منها وهج الشهوات الدنيا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من ذكر هادم اللذات، أعني الموت".

ومن آدابه: أن يخرج من قلبه ذكر المخلوقين.

ومن آدابه: أن يتخلق مع الغني إذا دخل عليه بما تصل يداه إليه من القوت أو فاكهة وإن كان شيئًا يسيرًا، لأنه بقلبه محترز عن الأسباب فهو بالإيثار أولى من الغنى الذي هو في أسر غناه إلا أن يكون ذا عيال في ضيقة، فلا يضيق على عياله بإيثاره ذلك للغنى، إلا أن يكون يعلم من عياله الإيثار وطيب النفس بذلك والموافقة والصبر والرضا والمعرفة واليقين، والأنوار تظهر من قلوبهم على ألسنتهم وجوارحهم وأنفسهم فحينئذ لا يبالي في البذل والمنع والإيثار والإمساك.

ومن أدب الفقير: ألا يترك الاحتياط في الورع في حال ضيق اليد، فلا يخرج إلى ما لا يحل في الشرع لفقره، فيخرج من العزيمة إلى الرخص، لأن الورع ملاك الدين، والطمع هلاكه، وتناول الشبهات فساده، كما قال بعض الصالحين: من لم يصحبه الورع في فقره أكل الحرام وهو لا يدري، فعليه ألا يخلد إلى التأويلات في دينه في حالة فقره، بل يرتكب الأشق والأحوط الذي هو العزيمة.



.


رد مع اقتباس