عرض مشاركة واحدة
قديم 08-04-2020, 11:40 AM   رقم المشاركة : 8
الكاتب

عمر نجاتي

الاعضاء

عمر نجاتي غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









عمر نجاتي غير متواجد حالياً


رد: كتاب آداب المريدين



[باب في صحبة الإخوان والصحبة مع الأجانب وكيف الصحبة مع الأغنياء والفقراء]

أما الصحبة مع الإخوان:


فبالإيثار والفتوة والصفح عنهم والقيام معهم بشرط الخدمة، لا يرى لنفسه على أحد حقًا، ولا يطالب أحدًا بحق، ويرى لكل أحد عليه حقًا، ولا يقصر في القيام بحقهم.

ومن الصحبة معهم إظهار الموافقة لهم في جميع ما يقولون أو يفعلون، ويكون أبدًا معهم على نفسه ويتأول لهم ويعتذر عنهم، ويترك مخالفتهم ومنافرتهم ومجادلتهم ومماراتهم ومشاددتهم، ويتعامى عن عيوبهم، فإن خالفه أحد منهم في شيء سلم له ما يقول في الظاهر، وإن كان الأمر عنده بخلاف ما يقوله.

وينبغي أن يحفظ أبدًا قلوب الإخوان، ويجتنب فعل ما يكرهونه وإ، علم فيه صلاحهم، فلا ينطوى لأحد منهم على حقد وإن خامر قلب واحد منهم كراهة له تخلق معه بشيء حتى يزول ذلك، فإن لم يزل زاد في الإحسان والتخلق حتى يزول، وإن وجد هو في قلبه من أحد منهم استيحاشًا وأذية بغيبة أو غيرها فلا يظهر ذلك من نفسه ويرى من نفسه خلاف ذلك له.

* * *

[(فصل) وأما الصحبة مع الأجانب]

فيحفظ السر عنهم، وينظر إليهم بعين الشفقة والرحمة، وأن يسلم أحوالهم إليهم، ويستر عليهم أحكام الطريقة، ويصبر على سوء أخلاقهم وترك معاشرتهم ما أمكنه، وألا يعتقد لنفسه عليهم فضيلة ويقول: إنهم من أهل السلامة فيتجاوز الله عنهم، ويقول لنفسه: أنت من أهل المضايقة، فتطالبين بالنقير والقطمير والحقير والكبير، وتحاسبين على الكبير والصغير، وأن الله تعالى يتجاوز للجاهل مالا يتجاوز بمثله من العالم، والعوام لا يبالى بهم والخواص على الخطر.
[(فصل) وأما الصحبة مع الأغنياء]

فالتعزز عليهم، وترك الطمع فيهم، وقطع الأمل مما في أيديهم، وإخراج جميعهم من قلبك، وحفظ دينك من التضعضع لهم لنوالهم، كما جاء في الحديث وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من تضعضع لعنى لأجل ما في يديه ذهب ثلثا دينه" فتعوذ بالله من فعل ينقص به الدين، وصحبة أقوام ينثلهم بهم الدين، وتنقطع عراه، ويطفئ نور الإيمان شعاع أموالهم وبريق دنياهم كما جاء في الحديث.

غير أنك إذا ابتليت بصحبتهم في سير أو سفر أو مسجد أو رباط أو مجمع فحسن الخلق أولى ما يستعمل، وهو حكم عام شامل في صحبة الأغنياء والفقراء فلا ينبغي لك أن تعتقد لنفسك فضيلة عليهم، بل تعتقد أن جميع الخلق خير منك لتتخلص من الكبر، ولا تطلب لنفسك فضيلة الفقر ولا تعتقد لها خطرًا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا ترى لها قدرًا ولا وزنًا كما قيل: من جعل لنفسه قدرًا فلا قدر له ومن جعل له وزنًا فلا وزن له، فأدب الغني بالإحسان إلى الفقير، وهو إخراج المال من كيسه إليه، ويكون فراغًا من ماله مستخلفًا فيه غير متملك له.


وأدب الفقير إخراج الغني من قلبه، ويكون قلبه فارغًا من الغني وماله، بل من الدنيا والآخرة أجمع، ولا يجعل لشيء من الأشياء في قلبه موطنًا ومحلاً ومدخلاً، بل يتصفى من ذلك كله ويخلو منه، ثم يترقب امتلاءه بربه عز وجل، فلا يكون لغيره وجود ولا له حول ولا قوة، فيأتيه عند ذلك فضل الله عز وجل فحينئذ يحصل الغني به عز وجل من غير تعب ولا هم.

* * *

[(فصل) وأما الصحبة مع الفقراء]

فبإيثارهم وتقديمهم على نفسك في المأكول والمشروب والملبوس والمذوذ والمجالس وكل شيء نفيس، وترى نفسك دونهم، ولا ترى لها عليهم فضلاً في شيء من الأشياء البتة.

عن أبي سعيد بن أحمد بن عيسى قال: صحبت الفقراء ثلاثين سنة ولم يجر بيني وبينهم كلام قط تأذوا به، ولا جرى بيني وبينهم منافرة استوحشوا منها، قيل له: كيف
ذلك؟ قال: لأني كنت معهم على نفس أبدًا، وإذا دخلت عليهم أدخلت عليهم سرورًا ورفقًا، واستعملت معهم خلقًا هدية وأدبًا وسببًا من الأسباب، فلا ترى بذلك لك عليهم فضلاً، بل تتقلد منهم منة في قبولهم ذلك منك.

واحذر أن تمن عليهم بذلك أو تراه منك بل اشكر الله عز وجل على ما أولاك من توفيقه على تيسير ذلك، جعله لك أهلاً لخدمة أهله وخاصته وأحبابه، فإن الفقراء الصالحين هم أهل الله وخاصته كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" فأهل القرآن من يعمل بالقرآن، وأما من يقرأ بلا عمل فليس من أهله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما آمن بالقرآن من استحل محارمه". فالمنة لمن يقبل منك العطية لا لك.

* * *

(فصل) ومن آداب الصحبة مع الفقراء:

ألا تحوجهم إلى مسألتك، وإن اتفق فاستقرض الفقير منك شيئًا فتقرضه في الظاهر، ثم تبرئه منه في الباطن، وتخبره عن قريب بذلك، ولا تبدأه بالعطاء على وجه الصلة لئلا يتحشم بحمل المنة منك بذلك.

ومن الأدب معهم: مراعاة قلبه بتعجيل مراده دون تنغيص الوقت عليه بطول الانتظار، لأن الفقير ابن وقته كما ورد: ابن آدم ابن يومه وليس له وقت لانتظار المستقبل.

ومن الأدب معهم: أنك إذا علمت أنه ذو عيال وصبيان فلا تفرده بالإرفاق فحسب، بل تتخلق معه بقدر ما يتسع له ولمن يشتغل به قلبه.

ومن الأدب معهم: الصبر على ما يذكر الفقير من حاله، وأن تتلقاه في حال ما يخاطبك بوجه طلق مستبشر، ولا تلقاه بالعبوس ولا بالنظر الشزر ولا بالكلام النزر، وإذا طالبك بما لا يحضر في الوقت فاصرفه بالوجه الجميل إلى عند مساعدة الإمكان، ولا توحشه بيأس الرد على الجزم لئلا يعود بحشمة الإخفاق وعدم الإصابة بحاجته عندك، والندم على إفشاء سره إليك حسيرًا، وربما يغلب عليه طبعه، وتستولي عليه نفسه، فيظهر عليه الجهل بحاله والسخط عليك والاعتراض على الرب عز وجل فيما قسم له من الفاقة إلى الخلق والتبذل عنهم، فيعمى قلبه وينطفئ نور إيمانه، فكنت أنت مؤاخذًا بذلك كله، إذا كنت سببًا لثوران ذلك من قلبه، بتركك الأدب في رده، وربما حجب أيضًا عن الصواب، والمعارف والعلوم والمصالح المدفونة في سؤاله للخلق، التي لو صبر وأحسن الأدب ظهرت وارتحل السؤال للخلق وحصل غنى اليد والقلب والبيت، وجاءته عساكر فضل الله وآلائه ونعمائه ودللته يد الرأفة والرحمة والراحة والرعاية، وتحقق فيه قوله عز وجل: {وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: 196] وجعل مصانًا مغارًا عليه، وله غنى عن الأشياء بخالقها وتأتيه الأشياء وهو لا يأتيها، يقصده القاصدون فينالون من أنواره وسره، ويطيبون بطيبه وهو لا يشعر بهم في غيب عنهم، مشغول بمولاه وجاذبه الذي جذبه إليه، وأنقذه من ظلمات مخالطة الخلق، وموافقة النفس ومتابعة الهوى، والتقيد بإرادة الأشياء دنيا وأخرى {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} [يس: 55] أهل الجنة لما باعوا في الدنيا أنفسهم وأموالهم لربهم عز وجل بالجنة، كما قال جل وعلا: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة:111] وصبروا على الإفلاس في الدنيا وردوا التصرف في الأنفس والأموال والأولاد إلى ربهم عز وجل، وسلموا الكل إليه جل جلاله سوى الأوامر والنواهي، وامتثلوا الأوامر وانتهوا عن النواهي وسلموا في المقدور، وتحرزوا من الخليقة، وتجوهروا عن الإرادات والأماني، والهمم في الجملة أدخلهم الجنة فشغلهم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما قال جل وعلا: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} فهكذا الفقير إذا فعل ذلك في الدنيا وتحقق بظاهر القرآن حصول الجنة له، باع حينئذ الجنة بربه عز وجل، وطلب الجار قبل الدار كما قالت رابعة رحمها الله: الجار قبل الدار، وكما قال عز وجل: {يريدون وجهه} [الأنعام: 52، والكهف: 28] وكما قال الله عز وجل في بعض كتبه السالفة: أود الأوداء إلى عبد عبدني بغير نوال ليعطي الربوبية حقها، وقول على رضي الله عنه: لو لم يخلق الله الجنة والنار ما كان أهلاً أن يعبد، قال عز وجل: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} [المدثر: 56] فإذا اتصف الفقير بهذه الصفة، وتحقق إفلاسه عن سوى مولاه، وتنظف قلبه عن التعلق بالأشياء وفنى عنها، وصار مريدًا حقًا، وغاب عما سوى ربه عز وجل، كان حقيقًا على كرم الله أن يتولاه ويدلله وينعمه في الدنيا إلى حين اللقاء، ثم يزيده على ذلك، ويجدد عليه الخلع والأنوار والنعيم والحياة الطيبة، والقرب على ما أعد وأخبر لأوليائه وأحبابه، بقوله عز وجل: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 11].

وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، اقرأوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.

فإن رددت الفقير اليد الغني القلب المتمثل لأمر مولاه في إخباره لك عن حاله لأجل عياله أو نفسه طائعًا لربه عز وجل في ذلك خائفًا له، أن لو ترك سؤالك إذ كلفه الله ذلك وابتلاه به، قال الله عز وجل: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} [الفرقان: 20] وهي حالة له لا تدوم، بل تنقضي عن قريب وينقل إلى ما قسم له من الغنى والعز الدائم بقرب مولاه وإعطائه، عاقبك الله يا غني اليد فقير القلب، الجاهل بنفسه وبربه، ومنشئه ومنتهاه، بأن يسلب الغنى عن يدك، فتصير فقير اليد كما كنت فقير القلب، فتكون أبدًا فقيرًا إلى الأشياء، فلا تشبع منها حريصًا عليها، طالبًا لها معذبًا في إرادتها وتحصيلها، وهي غير مقسومة لك، كما قيل: إن من أشد العقوبات طلب ما لا يقسم إلا أن يتغمدك الله برحمته، فينبهك لذنبك فتستغفره، وتتوب إليه من ذلك وتعترف بتفريطك ويتوب عليك ويغفر لك، فذلك إليه وهو أرحم الراحمين غفور رحيم.



.


رد مع اقتباس