عرض مشاركة واحدة
قديم 08-04-2020, 11:21 AM   رقم المشاركة : 4
الكاتب

عمر نجاتي

الاعضاء

عمر نجاتي غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









عمر نجاتي غير متواجد حالياً


رد: كتاب آداب المريدين



[(فصل) وأما آدابه مع الشيخ]

فالواجب عليه ترك مخالفة شيخه في صحبته في الظاهر، وترك الاعتراض عليه في الباطن، فصاحب العصيان بظاهره تارك لأدبه، وصاحب الاعتراض بسره متعرض لعطبه، بل يكون خصمًا على نفسه لشيخه أبدًا، يكف نفسه ويزجرها عن مخالفته ظاهرًا وباطنًا، ويكثر قراءة قوله عز وجل: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} [الحشر: 10].

وإذا ظهر له من الشيخ ما يكره في الشرع استخير عن ذلك بضرب المثل والإشارة، ولا يصرح به لئلا ينفر به عليه، وإن رأى فيه عيبًا من العيوب ستره عليه، ويعود بالتهمة على نفسه، ويتأول للشيخ في الشرع، فإن لم يجد له عذرًا في الشرع استغفر للشيخ ودعا له بالتوفيق والعلم والتيقظ والعصمة والحمية، ولا يعتقد فيه العصمة، ولا يخبر أحدًا به، وإذا رجع إليه يومًا آخر أو ساعة أخرى يعتقد أن ذلك قد زال، وأن الشيخ قد نقل إلى ما هو أعلى رتبة ولم يقر عليه، وإنما كان ذلك غفلة وحدثًا وفضلاً بين الحالين، لأن لكل حالين فصلاً ورجوعًا إلى رخص الشرع وإباحته وترك العزيمة والأشد، كالدهليز بين الدارين، والمنزلة بين المنزلتين، انتهاء للحالة الأولى، وقيامًا على عتبة الحالة الثانية، وانتقالاً من ولاية إلى أخرى، وخلع خلعه ولاية، ولبس خلعة ولاية أخرى، التي هي الأعلى والأشرف لأنهم كل يوم في مزيد قرب من الله عز وجل.


وإذا غضب الشيخ وعبس في وجهه أو ظهر منه نوع إعراض عنه لم ينقطع عنه، بل يفتش باطنه وما يجري منه من سوء الأدب في حق الشيخ أو التفريط فيما يعود إلى أمر الله عز وجل، من ترك امتثال الأمر وارتكاب النهي، فليستغفر ربه عز وجل وليبت إليه، ويعزم على ترك المعاودة إليه، ثم يعتذر إلى الشيخ ويتذلل له ويتملقه، ويتحبب إليه بترك المخالفة له في المستقبل، ويداوم على المرافقة له، ويواظب عليها، فيجعله وسيلة وواسطة وبين وبين ربه عز وجل، وطريقًا وسببًا يتوصل به إليه، كمن يريد الدخول على ملك ولا معرفة له به، فإنه لابد له من أن يصادف حاجبًا من حجابه، أو واحدًا من حواشيه وخواصه، ليبصره بسياسة الملك ودأبه وعادته، ويتعلم الأدب بين يديه والمخاطبة له، وما يصلح له من الهدايا والطرائف مما ليس مثلها في خزانته، ومما يؤثر الاستكثار، فليأت البيت من بابه ولا يتسلق من ورائه من غير بابه، فيلام ويهان،
ولا يبغ الغرض من الملك ولا المقصود منه، ولكل داخل دهشة لابد له من مذكر ومنه، ومن يأخذ بيده فيقعده موضع مثله، أو يشير إليه بذلك لئلا تتطرق إليه المهانة، ولا يشار إليه بسوء الأدب والحماقة، وليتحقق بأن الله عز وجل أجرى العادة بأن يكون في الأرض شيخ ومريد صاحب ومصحوب، تابع ومتبوع من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة.

ألا ترى إلى آدم عليه السلام لما خلقه الله تعالى علمه الأسماء كلها، وافتتح الأمر به، فجعله كالتلميذ مع الأستاذ، والمريد مع الشيخ، وقال له: يا آدم هذا فرس وهذا بغل وهذا حمار، حتى علمه قصعة وقصيعة، ثم لما فرغ من تعليمه وتهذيبه جعله أستاذًا معلمًا شيخًا حكيمًا، وكساه بأنواع الحلل والحلى، وتوجه منطقة وأجلسه على كرسي في اللجنة، وأقام الملائكة حوله صفوفًا فقال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} [البقرة: 33] بعد أن ظهر عجزهم وعدم علمهم بذلك، وقولهم: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} [البقرة:32] فصارت الملائكة تلاميذ لآدم وآدم شيخهم، فأنبأهم بأسماء الأشياء كلها على ما شهد به القرآن، فظهر فضله عليه السلام عليهم، فصار أفضلهم وأعلمهم وأشرفهم عند الله وعندهم، فصار متبوعهم وهم تابعون مقتدون صلوات الله عليهم.

فلما جرى ما جرى من أكل الشجرة والخروج من الجنة، والانتقال إلى حالة أخرى ومنزل غيره، لم يعط علمه ولم يستوطنه بعد، ولا جرى ذلك في خلده، ولا ظن أنه سيسار به إليه، فلما وصل إلى المنزل وجال في الأرض، استوحش منها ورأى فيها ما لم يكن رآه من قبل، فألقى عليه الجوع والعطش والحرقة والقبض ما لم يعهده من قبل، احتاج إلى معلم ومرشد وأستاذ ودليل ومؤدب ومنبه، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام فآنسه، وعرفه ما أشكل عليه من أمر المنزل، وأعطاه الحنطة فأمره فبذرها ثم أمره فحصدها، ثم أمره فذراها، فطحنها وهيأ له أسبابها، ثم أمره بالخبز فخبز، ثم أمره بالأكل فأكل، ثم لما طلب الطعام الخروج من المعدة تحير ولم يعلم بالصنع احتاج إلى معلم أيضًا، فعلمه كيف يتغوط وكيف يتطهر، وكيف يعبد الله تعالى في المنزل، وعلمه كيف يتوصل إلى بياض جسده الذي قد حال لونه من البياض والإشراق إلى السواد والظلمة، فأمره بصيام أيام البيض من الشهر ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر، فعاد لونه إلى البياض، وعلمه غير ذلك من العلوم والآداب، فصار آدم عليه السلام تلميذًا لجبريل، وجبريل عليه السلام أستاذه وشيخه، بعد أن كان آدم شيخه والملائكة أجمع ومتبوعهم، وأعلمهم كل ذلك لتغير الحال به، والانتقال من منزل إلى آخر، ثم هلم جرًا، تعلم شيث بن آدم من أبيه آدم، ثم أولاده منه، وكذلك نوح النبي عليه السلام علم أولاده، وإبراهيم عليه السلام علم أولاده، قال الله تعالى: {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} [البقرة: 132] أي أمرهم وعلمهم، وكذلك موسى وهارون عليهما السلام علما أولادهما وبني إسرائيل، وعيسى عليه السلام علم الحواريين، ثم إن جبريل عليه السلام علم نبينا -صلى الله عليه وسلم- الوضوء والصلاة ووصاه بالسواك وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وصاني جبريل بالسواك حتى كاد أن يفرضه، وصلى بي جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حتى زالت الشمس .... " الحديث إلى آخره وقد تقدم ذكره ثم تعلمت الصحابة رضي الله عنهم منه -صلى الله عليه وسلم- ثم التابعون منهم، ثم تابعو التابعين منهم قرنًا بعد قرن وعصرًا بعد عصر، فما من نبي إلا وله صاحب يهتدي بهداه ويقفو أثره وينتحل مذهبه ويهدى هديه، ثم يخلفه مكانه ويقوم مقامه، كموسى بن عمران وغلامه وابن أخته يوشع بن نون عليهم السلام، والحواريون مع عيسى عليه السلام، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك عثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم، وما زالت الأولياء والصديقون والأبدال كذلك من بين أستاذ وتلميذ كالحسن البصري وتلميذه عتبه الغلام وسرى السقطي وغلامه وابن أخته أبي القاسم الجنيد وغيرهم مما يطول شرحه.


فالمشايخ هم الطريق إلى الله عز وجل والأدلاء عليه والباب الذي يدخل منه عليه، فلابد لكل مريد لله عز وجل من شيخ على ما بينا، إلا على النذور والشذوذ، فيجوز أن يصطفى الله عبدًا من عباده، فيتولى تربيته وحراسته عن الشيطان وهنات النفس والهوى، كإبراهيم النبي ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليهما، وأويس القرني من الأولياء وغيرهم رحمهم الله فلا ينكر، إلا أنا بينا ما هو الأغلب والأكثر والأسلم والأحسن.

فلا ينبغي له أن ينقطع عن الشيخ حتى يستغنى عنه بالوصول إلى ربه عز وجل، فيتولى تبارك وتعالى تربيته وتهذيبه، ويوقفه على معاني أشياء خفيت على الشيخ، ويستعمله مما يشاء من الأعمال ويأمره وينهاه ويبسطه ويقبضه ويغنيه ويفقره ويلقنه ويطلعه على أقسامه وما سيؤول أمره إليه، فيستغنى بربه عن غيره، بل لا يتفرغ لغيره
ولا يسعه مراعاة الأدب لغيره، ومحافظة خدمته وحرمته وتوقيره، فحينئذ يقطع عن الشيخ قطعًا وربما حرم عليه المرور إلى الشيخ، إلا عن أمر صريح وخبر بين، إلا ما يتفق مجيء الشيخ إليه، أو الملاقاة له في طريق أو جامع قدرًا لا قصدًا، كل ذلك حفظًا للحال، واستغناء بالرب وغيره على الحال وملازمة لها وخيفة من الزلة والمفارقة لها والعقوبة بذلك، وذلك أن الحكم يجمع المريد والشيخ ويسعهما والأحوال تفرق بينهما لأنها قدر والقدر غيب، فهي فعل الرب عز وجل، والله تعالى في كل يوم هو في شأن في تقديم وتأخير، وتبديل وتغيير، وولاية وعزل، وإغناء وإفقار، وإعزاز وإذلال، يسوق المقادير إلى المواقيت، لا يدرك ذلك ولا ينضبط لأحد من الخلق، ليل مظلم وبحر لجي، وبر شاسع لا يحيط بشيء من ذلك إلا الله عز وجل، ومن يطلعه الله تعالى عليه من رسله وأنبيائه وخواص أوليائه، فالاثنان من الأولياء لا يتفقان في طريق بعد دخولهم في الحالات التي هي القدر والفعل.

فما يصنع المريد بالشيخ وطريقهما مختلفة، فالشيخ يسير به إلى جهة، والمريد إلى أخرى، فقد خولف بين ظهورهما ووجوههما، فأنى لهما والصحبة والاجتماع والاتباع يبعد ذلك جدًا، فإن اتفق فهو نادر شاذ لا التفاف إليه ولا معول عليه، إذ الأغلب ما قد انكشف وظهر وبان، فصلوات الله على الشيخ، وعلى المريد الصادق الذي إذا بلغ به إلى حالة استغنى فيها بربه تبارك وتعالى عن الشيخ.

ومن آداب المريد:

ألا يتكلم بين يدي شيخه إلا في حالة الضرورة، وألا يظهر شيئًا من مناقب نفسه بين يديه.

ولا ينبغي له أن يبسط سجادته بين يدي الشيخ إلا في وقت أداء الصلاة، فإذا فرغ من صلاته طوى سجادته في الحال، ويكون متهيئًا لخدمة شيخه ومن هو قاعد على بساطه، مبسوطًا مستوطنًا مستريحًا، لا كلفة عليه لغيره، وهذه حالة الشيوخ لا حالة المريدين.

ويجتهد في اجتناب بسط سجادته وفوق سجادته من هو فوقه في الرتبة، وإدناء سجادته من سجادته إلا بأمره، فإن ذلك عندهم سوء أدب.

وينبغي للمريد إذا جرت مسألة بين يدي الشيخ أن يسكت، وإن كان عنده فضل




.


رد مع اقتباس