عرض مشاركة واحدة
قديم 08-07-2012, 03:52 PM   رقم المشاركة : 2
الكاتب

أفاق : الاداره

مراقب

مراقب

أفاق : الاداره غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









أفاق : الاداره غير متواجد حالياً


رد: سيرة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله


الشيخ زايد والجامع الكبير


Cant See Images

الشيخ زايد والجامع الكبير

ليس ثمّة شك في أنّ المغفور له، بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان زعيم تاريخي كبير، لم يتصّف بقوة الإرادة وعمق البصيرة وسداد الرؤية فحسب، بل استطاع في أثناء حياته الغنيّة والحافلة بالإنجازات (1918-2004) أن يصنع تحولات حاسمة في مجتمعه بعد أن قام بتأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وأن تترافق هذه التحولات بالمنجزات المادية والفكرية والاجتماعية التي نقلت حياة الناس وغيرت أحوالهم وصنعت مجتمعاً يتميّز بالانفتاح على معطيات العصر، والحفاظ على الهوية الثقافية الخاصة به في الوقت نفسه.

إنّ المتأمل في سيرة الشيخ زايد، طيّب الله ثراه، يرى كيف شرع يحفظ القرآن الكريم منذ نعومة أظافره. وكيف بدأ يختلف، ولم يكن قد تجاوز سنّ الطفولة بعد، إلى مجلس والده فيصغي إلى ما يدور في المجلس ويتعلّم مهارة الإصغاء وفن طرح السؤال، والإجابة الشافية المختصرة. حتى صار معروفاً بأنّ قدرات ذلك الطفل التعليمية تفوق سنوات عمره.

ظل الشيخ زايد، رحمه الله، على امتداد عمره وثيق الصلة بالإسلام الصافي البعيد عن التعصّب والغلّو. ينعم بعلاقة الحبّ النقي بين الخالق والمخلوق وهي علاقة كان يحرص على ديمومتها في السر والعلن؛ لأنها الوسيلة التي ترتقي بالإنسان فوق عالم الضرورات وتسهم في تحريره منها. فالإسلام عنده كما كان يقول "هو الأساس" وعندما نتمكن من فهمه واستيعاب مراميه فإنه يشكل أساساً من أسس التقدم؛ لهذا يقول: "فعندما اتبع العرب تعاليم الدين، سادوا العالم وحققوا الأمجاد … وديننا حافل بالتعاليم العظيمة".


في الوقت نفسه كان يعي أهمية العلم والتكنولوجيا، ويدرك ضرورة أن يكون المرء ابناً لعصره، لهذا كان يدافع عن العقل والتنوير، ويدعو إلى التعليم والأخذ بكل ما يؤدي إلى النهوض بالمجتمع، مثلما بقي يدافع عن أهمية الانفتاح على تجارب الآخرين "دون أن تجذبنا قشور المدنّية" ودون أن يؤدي ذلك إلى أن يفقد المجتمع هوّيته وملامحه.

وقد تحدث، رحمه الله، إلى صحيفة لوموند الفرنسية في هذا السياق فقال: "إنني أتساءل هل الإسلام ضد العمران والتقّدم العلمي؟ وهل هو ضد الازدهار والرفاهية، ورفع مستوى معيشة المجتمع؟ بالطبع لا. بل على العكس من ذلك تماماً. إذ إن المبادئ الإسلامية هي التي تطالب بكل هذا وتحث على تحقيقه (…) وهكذا فنحن نأخذ من الحضارة الغربية ما هو خير لأمتنا، وننبذ ما هو شر لها. فديننا الإسلامي ينهانا عن كل ما يتنافى مع ديننا وتقاليدنا".

أشار كلود موريس وهو يتحدث عن شخصية الشيخ زايد إلى أعظم سمة في شخصية الراحل الكبير وهي موهبته في خلق الانسجام والتوفيق بين المختلفين، أي مقدرته الفذة على التوفيق بين الأمور المتنافرة وصهرها في بوتقة واحدة.

ولم تتجل هذه السمة في الجانب السياسي في شخصيته، بل ظهرت على نحو بارز في طبيعة إدراكه لطبيعة العلاقة مع الأمم والحضارات الأخرى؛ لهذا يكثر الحديث عن الأبعاد العالمية في شخصية الشيخ زايد الذي اختير غير مرّة رجل العام من مؤسسات عالمية.

وليس ثمة من تناقض بين حرص الشيخ زايد على الطابع المحلي والبعد الإنساني العالمي في شخصيته، لأنّ المحلّية، غير المنغلقة أو المتعصبّة، هي شرط أساسي من شروط العالمية. من هنا كان الشيخ زايد يؤمن بوجوب صدور القائد عن منظومة أخلاقية. فقيمة الدول، كما كان يرى، لا تتحدد في ضوء ما تملكه من أسلحة، وموارد ومساحات، بل تتحّدد في ضوء المنظومة الأخلاقية التي تبني سياستها في ضوئها.

ولعّل شخصية الشيخ زايد التي صقلتها التجارب وتوالي الايام تتجلّى أكثر ما تتجلّى في حرصه على أن يغرس ثقافة التسامح. وإذا كان الشيخ زايد، رحمه الله، يحرص على تحويل الصحراء إلى جنات وارفة الظلال، لأنه كان يحب الطبيعة والماء، فإن حرصه على التسامح لا يقلّ عن حرصه على تحويل الأرض اليباس إلى جنّة وارفة الظلال.


كان الشيخ زايد يرى أنّ ثقافة التسامح مشروع حضاري خلاّق لا يقل أهميّة عن المشاريع الأخرى الكثيرة التي حرص على الإشراف على تنفيذها وحسن أدائها. فالتسامح هو دليل حيوية الأمة وقدرتها على النهوض والتقدّم. فثقافة التسامح التي كان الشيخ زايد، رحمه الله، يدعو إليها كانت تسعى إلى تعظيم القواسم المشتركة، لأنّ البشر حين يختلفون يغفلون عن تلك القواسم، ويهتمون بما يفرّقهم لا بما يجمعهم. وعندها يعظم الخلاف بين الناس وتبدأ الثقافات لغة اختزال الآخر وتنميطه والحديث عنه على نحو يسلبه جوهره الإنساني الذي كرمه الخالق، عزّوجل، بصرف النظر عن دينه ولونه ووطنه. لهذا كان الشيخ زايد يردد بأن "الإسلام يقضي بمعاملة كل شخص كنفس مهما كان معتقده، وهي نقطة تجعلنا نعتز بالإسلام".

ولا عجب أن يكون خطاب التسامح أساسياً في تصور الشيخ زايد عن الإسلام. فقد كان الشيخ زايد، طيب الله ثراه، شديد الإيمان بأن الإسلام دين هداية وتوحيد ورحمة وسلام، وهو دين الفطرة المنسجم مع النفس الإنسانية، يعظّم جوانب الخير في الإنسان ويعي جوانب الضعف فيه، ويسعى لبناء شخصية متوازنة، محبة للبحث والعلم والتفكير، تحترم التعددية في الاجتهاد، وتحترم تصورات الآخر وتحاورها دون استعلاء ودون شعوربالنقص.

كانت رؤية الشيخ زايد، رحمه الله، تنبثق في هذا الإطار من مبدأ عرفته الحضارة العربية الإسلامية يقوم على التنّوع في إطار الوحدة. فالتنوع سنّة إلهية مطرّدة. والإنسانية التي خلقها الله من نفس واحدة تنوعت إلى شعوب وقبائل وأمم وأجناس وألوان، وصار لها شرائع مختلفة في إطار الدين الواحد، وصار لها مناهج وثقافات وحضارات في إطار المشترك الإنساني الواحد: [وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ] [الروم: 22].

وإذا تأملنا سيرة الشيخ زايد، فسنرى أنها قاست على تحقيق التوازانات في مشهد تسوده قوى متصارعة، فقد بنى دولة مزج فيها بين تقاليد القيادة القوية وبيئة الشراكة الراسخة، حيث تتعايش التقاليد مع المعاصرة والقيم البدوية مع الثقافة الحضرية وحيث لا تتناقض التطلعات الفردية مع الوحدة الكلية للمجتمع.

وقد انطلقت فلسفة الشيخ زايد من الأسس الإسلامية القائمة على التسامح، فأدرك الحكمة من العفو والغفران، ومدّ يد الصداقة إلى الآخرين ليردم هوّة الخلاف بينه وبينهم، وآمن بالوحدة التي تنقذ الناس من الفوضى والتشتت والصراع، لكنه ظل يؤمن بالتنوع الذي يثري الحياة ويعود بالنفع على الناس. وكانت عبارته الشهيرة "أشقاء في أسرة واحدة" تمثل جوهر فكره القائم على التنوع في إطار الوحدة، واجتراح سياسات تنبني على الاعتبارات الأخلاقية والمثل الفاضلة.

وكان مبدأ التنوع في إطار الوحدة لا يتجلّى على المستوى المعماري، أكثر من تجليّه في جامع الشيخ زايد الكبير، الصرح الحضاري الباهر الذي وجه المغفور له إلى بنائه سنة 1996.

فهذا الجامع يكشف عن ثراء في التنوع المعماري، وانسجام بين مدارس العمارة الإسلامية على امتداد عصورها، فضلاً عن استيعابه لأنماط حديثة من الطرز المعمارية المعاصرة. وبذلك فإن الراحل الكبير كان يسعى إلى إقامة بيت من بيوت الله يجسد رسالة الإسلام في التسامح والتنوع في إطار الوحدة، ويريد لهذا المعمار الديني أن يغدو مرجعاً في العمارة الإسلامية الحديثة، التي تتصل بالماضي ولا تحاكيه، وتفيد من معطياته في ضوء متطلبات العصر ومقتضياته.

وهكذا صار جامع الشيخ زايد الكبير صرحاً إسلامياً بارزاً ونموذجاً للإبداع المعماري والهندسي، وهو ثمرة المنظور الإسلامي المستنير للشيخ زايد، فقد أراد أن يكون هذا الجامع صرحاً إسلامياً يرسخ قيم الإسلام، ويبلور آفاق الفكر الإسلامي القائم على التسامح، ومركزاً للعلوم الإسلامية.
Cant See Links


رد مع اقتباس