بسم الله الرحمن الرحيم
المقالة الحادية السبعون
فـي الــمــريـــد والــمـــراد
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : لا يخلو إما أن تكون مريداً أو مراداً.
فإن كنت مريداً فأنت محمل و حمال يحمل كل شديد و ثقيل، لأنك طالب و الطالب مشقوق عليه حتى يصل إلى مطلوبه و يظفر بمحبوبه و يدرك مرامه، و لا ينبغي لك أن تنفر من بلاء ينزل بك في النفس و المال و الأهل و الولد، إلى أن يحط عنك الأعمال، و يزال عنك الأثقال، و يرفع عنك الآلام و يزال عنك الأذى و الإذلال، فتصان عن جميع الرذائل و الأدران و الأوساخ و المهانات و الافتقار إلى الخليقة و البريات، فتدخل في زمرة المحبوبين المدللين المرادين.
و إن كنت مراداً فلا تتهمن الحق عزّ و جلّ في إنزال البلية بك أيضاً، و لا تشكن في منزلتك و قدرك عنده عزّ و جلّ، لأنه قد يبتليك ليبلغك مبلغ الرجل، و يرفع منزلتك إلى منازل الأولياء.
أتحب ما يحط منزلتك عن منازلهم و درجاتك عن درجاتهم و أن تكون خلعتك و أنوارك و نعيمك دون ما لهم، فإن رضيت أنت بالدون فالحق عزّ و جلّ لا يرضى لك بذلك . قال تعالى : }وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{.البقرة216+232.آل عمران66.النور19. يختار لك الأعلى و الأسنى و الأرفع و الأصلح و أنت تأبى.
فإن قلت: كيف يصلح ابتلاء المراد مع هذا النعيم و البيان مع أن الابتلاء إنما هو للمحب، و المدلل إنما هو المحبوب.
يقال لك ذكرنا الأغلب أولاً و سمرنا بالنادر الممكن ثانياً.
لا خلاف أن النبي صلى الله عليه و سلم كان سيد المحبوبين أشد الناس بلاء، و قد قال صلى الله عليه و سلم ( لقد خفت في الله ما لا يخافه أحد، و لقد أوذيت في الله لم يؤذه أحد، و لقد أتى علي ثلاثون يوماً و ليلة و ما لنا طعام إلا شيء يواريه إبط بلال ) و قد قال صلى الله عليه و سلم ( إنا معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل ) و قد قال صلى الله عليه و سلم ( أنا أعرفكم بالله و أشدكم منه خوفاً ) فكيف يبتلى المحبوب و يخوف المدلل المراد و لم يكن ذلك إلا بما أشرنا إليه من بلوغ المنازل العالية في الجنة لأن المنازل في الجنة لا تشيد و لا ترفع بالأعمال في الدنيا.
الدنيا مزرعة الآخرة، و أعمال الأنبياء و الأولياء بعد أداء الأوامر و انتهاء النواهي و الصبر و الرضا و الموافقة في حالة البلاء يكشف عنهم البلاء و يواصلون بالنعيم و الفضل و الدلال و اللقاء أبد الآباد، و الله أعلم.