الموضوع: فتوح الغيب
عرض مشاركة واحدة
قديم 12-17-2011, 09:48 AM   رقم المشاركة : 52
الكاتب

عمر نجاتي

الاعضاء

عمر نجاتي غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









عمر نجاتي غير متواجد حالياً


رد: فتوح الغيب

بسم الله الرحمن الرحيم

المقالة الحادية والأربعون

مـثـل فـي الـفـنـاء و كـيـفـيـتـه


قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : نضرب لك مثلاً في الفناء فنقول: ألا ترى أن الملك يولى رجلاً من العوام ولاية على بلدة من البلاد، ويخلع عليه ويعقد له ألوية ورايات، ويعطيه الكؤوس والطبل والجند فيكون على برهة من الزمان، حتى إذا اطمأن واعتقد بقاءه وثباته، وعجب به ونسي حالته الأولى ونقصانه وذله وفقره وخموله، وداخلته النخوة والكبرياء جـاءه العزل من الملك في أشر ما كان من أمره، ثم طالبه الملك بجرائم صنعها وتعدى أمره ونهيه فيها، فحبسه في أضيق الحبوس وأشدها، وطال حبسه ودام ضره له وذله وفقره، وذابت نخوته وكبرياؤه، وانكسرت نفسه وخمدت نار هواه، وكل ذلك في عين الملك ثم تعطف الملك عليه فنظره بعين الرأفة والرحمة، فأمر بإخراجه من الحبس والإحسان إليه، والخلعة عليه وردَّ الولاية إليه ومثلها معها وجعلها له موهبة، فدامت له وبقيت مصفاة مكفاة مهنأة وكذلك المؤمن إذا قربه الله إليه واجتباه فتح قبالة عين قلبه باب الرحمة والمنة والإنعام، فيرى بقلبه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، من مطالعة الغيوب من ملكوت السموات والأرض وتقريب وكلام لذيذ لطيف ووعد جميل، ووفاء به، وإجابة دعاء وكلمات حكمة وتصديق وعد، فإنها ترمى إليه قلبه قذفاً من مكان بعيد فتظهر على لسانه، ومع ذلك يسبغ عليه نعمة ظاهرة على جسده وجوارحه، في المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح الحلال والمباح وحفظ الحدود والعبادات الظاهرة، فيديم الله عزّ وجلّ ذلك لعبده المؤمن المجذوب برهة من الزمان، حتى اطمأن العبد إلى ذلك واغتر به واعتقد دوامه فتح عليه أبواب البلايا وأنواع المحن في النفس والمال والأهل والولد والقلب فينقطع عنه جميع ما كان أنعم الله عليه من قبل، فيبقى متحيراً حسيراً منكسراً مقطوعاً به.


إن نظر إلى ظاهره رأى ما يسوؤه، وإن نظر إلى قلبه وباطنه رأى ما يحزنه، وإن سأل الله تعالى كشف ما به من الضر لم ير إجابته، وإن طلب وعداً جميلاً لم يجده سريعاً وإن وعد بشئ لم يعثر على الوفاء به، وإن رأى رؤيا لم يظفر بتعبيرها وتصديقها، وإن رام الرجوع إلى الخلق لم يجد إلى ذلك سبيلاً، وإن ظهرت له في ذلك رخصة فعمل بها تسارعت العقوبات نحوه وتسلطت أيدي الخلق على جسمه وأسنتهم على عرضه، وإن طلب الإقالة مما قد أدخل فيه من الحالة الأولى قبل الاجتباء لم يقل، وإن طلب الرضا أو الطيبة والتنعم بما به من البلاء لم يعط فحينئذ يأخذ النفس في الذوبان والهوى في الزوال والإرادة والأماني في الرحيل والأكوان في التلاشي، فيدام له ذلك بل يزداد تشديداً وعصراً وتأكيداً، حتى إذا فني العبد من الأخلاق الإنسانية والصفات البشرية وبقى روحاً فقط يسمع نداء في باطنه }ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ{.ص42. كما قيل لسيدنا أيوب عليه السلام، فيمطر الله عزّ وجلّ في قلبه بحار رحمته ورأفته ولطفه ومنته، ويحييه بروحه ويطيبه بمعرفته ودقائق علومه، ويفتح عليه أبواب رحمته ونعمته ودلاله، وأطلق إليه الأيدي بالبذل والعطاء والخدمة في سائر الأحوال والألسن بالحمد والثناء، والذكر الطيب في جميع المحال، والأرجل بالترحال، وذلك له وسخر له الملوك والأرباب، وأسبغ عليه نعمة ظاهرة وباطنة، تربيته ظاهرة بخلقه ونعمه، ويستأثره تربيته باطنة بلطفه وكرمه، وأدام له ذلك إلى اللقاء، ثم يدخله فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما قال جلّ وعلا : }فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{.السجدة17.


رد مع اقتباس