المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ضرورة نقد الخطاب الديني (للكاتب سعود البلوي)


مــــريـــــــم
06-30-2007, 07:38 AM
ضرورة نقد الخطاب الديني (للكاتب سعود البلوي)

سعود البلوي

ضرورة نقد الخطاب الديني

"الخطاب الديني" هو جملة الأفكار الموجهة التي ينطلق منها الإنسان منطلَقاً دينياً حتى ولو لم تحتمل ذلك، والخطاب الديني الإسلامي المعاصر هو نتاج تراكم قناعات الماضي التي بناها العقل البشري على أسس دينية ابتعدت به كثيراً عن الواقع المعاش من خلال الرواسب الفكرية والتكلّسات التي قضت، في التاريخ الإسلامي المعاصر، على معظم معاني "الأنسنة" التي تقوم أصلاً على "اهتمام الإنسان بالإنسان وحمايته واحترام كرامته والرفع من شأنه في جميع ميادين الحياة الإنسانية" (بحسب محمد أركون)، باعتبار الإنسان نقطة جوهرية هي الأعلى قيمة في الحياة البشرية.

وبما أن النقد العقلاني هو أساس إصلاح أي خلل فمن الضروري نقد الخطاب الديني الإسلامي في بعض مراحله التاريخية للوقوف على أبرز سلبياته لا سيما وأن الأديان جاءت لأهداف نبيلة لكنها-نتيجة الزمن- ربما استُغلت لغايات بشرية خاصة تتكئ على إعطاء هذه المصالح الشرعية الدينية وقد تخدم فئة دون أخرى؛ مما يستوجب دراسة الخطاب الديني وتحليله بهدف تحديد ومن ثمَّ إزالة الشوائب الفكرية مع الإشادة بالفكر المستنير لترسيخ القيم الإنسانية فيه التي من شأنها الارتقاء بالمجتمعات الإسلامية التي ما زالت تعيش أزمة في ثقافتها تُستخدم فيها-على كل حال- شماعة العدو الخارجي. ومهما يكن الأمر فإنه يجب الإشارة إلى أن نقد الخطاب الديني لا يقوّض أركان الدين بقدر ما يؤدي إلى التجديد والتطوير ودعم فكرة التأسيس لمجتمعات مدنية في العالم الإسلامي.

ومحور الإشكال هو أن لغة الخطاب الديني تصرُّ دائماً على أنها المخلّص الوحيد للناس من مشاكلهم ومآسيهم وأزماتهم، بينما هي فعلياً لغة إنشائية لا تقدم الحلول المناسبة بل نراها تصاب بالانكسار أمام أغلب الأزمات-السياسية وغير السياسية- التي مرت وتمر بتاريخنا الإسلامي، فالاحتكام إلى التراث الماضوي درس غير مفيد كثيراً بالنسبة لمجتمعات العالم الإسلامي نتيجة رفض تجديد الخطاب الديني والابتعاد عن مسار النصّ والإصرار دائماً على البقاء في فلك الهامش جملة وتفصيلاً، حتى يكاد تراثنا أن يعيد صناعة العجلة ذاتها في معظم حقبه التاريخية وخصوصاً تلك التي أعقبت انهيار الحضارة الإسلامية. وقد أصبح هذا التراث عدواً للحضارة الحديثة والتقدم العلمي والثقافي بسب تقديس الخطاب الديني للعقل الفقهي المنطلق من الفكر الماضوي فقط الذي أنتج الهامش وكرسه على حساب النص، حيث ما زالت كتب التراث هي محور الاعتناء والاهتمام قياساً بالضرورات الملحّة من المواد العلمية والفلسفية التي يتم رفضها واستيراد منتجاتها المادية في الوقت ذاته!

ويبقى الاهتمام منصباً على تفسير الهوامش لا المتون، إذ انتقلت عدوى الهوامش إلى الأجيال اللاحقة بكل ما تحمله من خصوصية للعصر الذي أُنتجت فيه بل ربما عدم مناسبتها للعصر الذي نعيش فيه اليوم وهذا ما يجعل الكثيرين منا يرفضون التجديد للوهلة الأولى ويفضلون البقاء مختفين خلف سياج الماضي الذي يمثّل المنفى الفكري والثقافي عن عالم اليوم.

ومن غرائب الخطاب الديني المعاصر أنه يقف سداً منيعاً أمام كثير من محاولات التحديث والبحث عن الحلول العصرية العملية المناسبة لمشكلاتنا، ولو أخذنا (البطالة النسوية) مثالاً بسيطاً لوجدنا أن هذا الخطاب يتخذ من لغة التحريم القطعي تضاداً مع النص الذي يفترض أنْ ينطلق منه، فهو أول من وقف ضد أولى خطوات الحل تجاه هذه القضية ولم يقدم حلولاً بديلة يمكن تطبيقها على أرض الواقع. هذا الخطاب إذن يشكل أزمة إنسانية حقيقية باتخاذه لغة الهروب عن واقع مجتمعنا السيئ.

الإشكاليات الاجتماعية والفكرية والثقافية لن يتم حلها إلا بالتركيز على مواطن الخلل والقصور الحقيقية ومن غير المنطقي أن تقابل بإشاحة الوجه عنها وعدم الاكتراث وهذا ما يتم فعلاً حيث لا حلول فعلية أو على الأقل البحث عن حلول منطقية مناسبة بينما هناك قضايا أخرى تُحل بشكل جيد كالتعاملات المالية والبنكية على الرغم من كون مصب هذه التعاملات في النهاية واحد.

هل هي عدم الرغبة في البحث عن حل؟ هل الأمر متعلق بمصالح اجتماعية معينة؟ لا أعلم. ولكن الأهم من هذا وذاك أن تكون رفعة هذا المجتمع وتقدم هذا الوطن نصب الأعين دائماً ونحن في النهاية نشكل نسيجاً واحداً على الرغم من اختلافاتنا وتبايننا، والأمر الذي يجب أن يبقى خارج أطر المزايدات، أو حتى الاختلاف، هو الوحدة الوطنية وكرامة الإنسان في هذا البلد. ولكن النقد مطلوب فلن ترتقي أي أمة طالما توهمت أنها الأفضل.

ولكن مع الأسف الشديد أنّ الخطاب الديني الحالي ينسى أو يتناسى هذه الجزئية المهمة إذ هناك من يحاول تكريس الأوهام الوثوقية ويحاول التعمية بالخلط بين نقد (الدين) ونقد الخطاب الديني الذي ينطلق من أفكار دينية، وهذا صحيح، لكنها ليست بالضرورة أن تعبِّر دائماً عن جوهر الدين ووجهه المشرق الذي جاء لتحرير الإنسان لا إلغاء عقله واستلاب حريته.

وبما أن المرجعية الدينية للمسلمين هي الدين الإسلامي وليس العقول التي صنعت الخطاب الذي هو جهد بشري غير منزه عن النقد والشك بطروحاته من خلال مناقشتها وتحليلها. لا أؤمن بأن "التاريخ يعيد نفسه" ولكني مقتنع بتشابه الأحداث التاريخية مع الاختلاف المرحلي لها، ولذلك أستطيع القول إنّ أوروبا العصور الوسطى كانت أنموذجاً سيئاً لسطوة الخطاب الديني المتزمت، ولم يتحرر الإنسان الأوروبي من تلك السطوة الجائرة إلا بعد أن نُزعت القدسية عن العقل الديني الذي استلب الإنسانية آنذاك بعد أن أفرز النظام البابوي مجتمعاً جاهلاً خاضعاً تماماً لرؤى أصحاب القداسة. وعملية التحرر والانعتاق تلك لم تتم بين عشية وضحاها بل جاءت بعد العديد من الطروحات الناقدة للخطاب الديني التي تخللتها الكثير من التضحيات والتي اتسمت بجرائم قاسية ضد الإنسانية تراوحت ما بين القتل والصلب والحرق بحق كل من خالف المصالح الكنسية التي حاولت الحفاظ عليها لكنها انحسرت حتى انتهت تماماً.

دور النقد الذي قام به الفلاسفة والمبدعون والمفكرون كان كبيراً في أوروبا حينها، ولم تصل شعوب أوروبا المتقدمة ثقافياً وتقنياً إلى ما وصلت إليه لو استمرت قداسة العقل الكنسي. ولهذا من المفترض أن يستفيد المسلمون من دروس وعبر التاريخ بدءاً بتقبل النقد قبل الاقتناع بضرورته ونحن في النهاية "محكومون بالأمل" كما يقول سعد الله ونوس.

المصدر
http://www.alhewar-alwatni.net/vb/showthread.php?p=155780#post155780