المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غياب الألفة : الجلوس في مواجهة البحر !!!!


أفاق : الاداره
06-25-2006, 11:54 PM
غياب الألفة : الجلوس في مواجهة البحر !!!!


بقلم :د. حصة لوتاه



في بحث مسحي اشتغلت عليه الدكتورة رفيعه غباش قبل عدة سنوات، وكانت تسعى من خلاله لمعرفة مدى إصابة النساء في دبي بداء الاكتئاب، وجدت أن أقل النساء إصابة بهذا الداء كن النساء الساكنات وقتها في منطقة جميرا. أي أن من بين سكان المدينة من النساء اللواتي كن يشكين من شعور بالاكتئاب كانت نساء منطقة جميرا أقلهن في المعاناة.


والاكتئاب كما هو معروف مرض أصبح من سمات الحياة العصرية، ومن أعراضه الشعور باللا جدوي وقلة الحماس وضعف القابلية للنشاط بكافة أنواعه، وفي أسوأ حالاته قد يدفع الإنسان إلى الانزواء وعدم التعاطي مع الآخرين. وقد وجدت الدكتورة رفيعه في تلك الدراسة أن طبيعة الحياة التي تعيشها النساء في منطقة جميرا في ذلك الوقت كان لها الدور الأكبر في الحفاظ على الصحة النفسية لسكان تلك المنطقة من النساء، حيث هؤلاء النساء كن يعشن في بيئة تساعد الفرد بشكل كبير على الإحساس بالانتماء للجماعة والشعور بالانسجام مع الآخرين والتمتع بإحساس التضامن.


وكل هذه المشاعر كانت تتجلى في الممارسات اليومية البسيطة التي كانت تعيشها تلك النسوة، فقد كن يقضين جزء من نهارهن في ممارسة طقوس يومية تتركز معظمها حول التواصل مع بعضهن البعض وقضاء جزء من النهار جالسات خارج المنازل وفي مواجهة البحر يتجاذبن أطراف الحديث ويتبادلن الهموم ويحتسين القهوة. وكل هذه المظاهر قد كانت موجودة في الكثير من مناطق دبي، لكنها اندثرت بسبب التغير في طبيعة البناء وانتقال الناس من مناطقهم الأصلية إلى مناطق جديدة ربما لم تنتقل إليها نفس العائلات التي كانت متجاورة قبلاً، مثلما تلعب المنازل الحديثة في تصميمها دوراً في جعل سكانها أكثر انغلاقاً ��ن محيطهم الخارجي.


وأظن أنه لو أعادت الدكتورة رفيعه دراستها مرة أخرى فربما لن تصل إلى النتيجة التي وصلت إليها سابقاً في دراستها الأولى حول نساء منطقة جميرا، فتلك المنطقة قد تغيرت هي الأخرى ولم تعد تحمل المظاهر القديمة من الانسجام بين الساكنين وتبادل الحديث والهموم والقهوة. إن مظاهر الحداثة التي أشرنا إليها والمتمثلة في بعض جوانبها في تغير نمط البيوت وتغير مفهوم الأحياء، من تلك المتركزة حول التواصل والانسجام إلى تلك المتسمة بالعزلة والانفصال لها بلا شك آثار محددة في جعل السكان أقل شعوراً بالألفة مع بعضهم وأضعف تواصلاً، مما يجعلهم أكثر عرضة للشعور بالوحدة وبغياب الترابط والمودة.


ولقد مررنا جميعنا تقريباً في دبي بهذه المرحلة وما زلنا نعيشها. حيث انتقلنا من أحيائنا القديمة إلى الأحياء الجديدة، ولم نستطع بطبيعة الحال نقل تفاصيلنا السابقة والمتمثلة في التآلف بين الجيران معنا، فقد تبدل الجيران وتبدلت معهم مظاهر كثيرة لم ندرك وقتها مدى تأثيرها على نفوسنا أو مساهمتها في دفعنا نحو الشعور بالخواء والإحباط. لقد أسهمت البيوت الحديثة في اشباع الرغبة في الظهور بمظهر التمدن أو الكشف عن الامكانات المادية لقاطنيها، لكنها زادت من عزلة الفرد وشعوره بعدم الانتماء مثلما زادت نسبة التمركز حول الذات، وكلها مظاهر لا تمنح الفرد الشعور بالأمان الاجتماعي الذي يساعده في الحفاظ على توازنه النفسي.


لا يدرك الإنسان أحياناً ما الذي تعنيه أساليب الحياة المختلفة وما هي آثارها. فكثيرون منا يعيشون فقط دون إدراك لأبعاد حياتهم أو تصرفاتهم. وكثيرون ربما يتأثرون بشدة من أساليب الحياة التي يعيشونها، لكنهم لا يدركون ما المشكلة أو المشكلات التي يعانونها. يقول د. ت. بيرم كرسو في كتابه المعنون بـ «سكينة الروح» إن الثقافة المعاصرة هي ثقافة «العزلة العميقة»، وإن من مظاهر هذه الثقافة الارتباط بالأشياء والانفصال عن الأشخاص.


ويضيف بأن امتلاك الأشياء لا يشعرنا بالاكتفاء الكامل، لأن هذه الأشياء تبقى عاجزة عن ملء الخواء النفسي، وأنه كلما كثرت الأشياء التي نمتلكها كلما زادت الهوة التي نشعر بها في نفوسنا عمقاً، كما أن الانفصال عن الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقات حميمة يؤدي إلى سلب الروح ثراءها. وكما يقول كرسو: ربما تكون الأشياء المادية لها بعض الأهمية في الحياة، لكنها لا تثريها أو تثرينا بالدرجة التي نشعر بالتوازن معها، أي إننا بحاجة دوماً للآخرين من أجل تأكيد ذواتنا، «منذ طفولتنا وحتى لحظة مماتنا نستمد القوة من الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقات، كما نقوم بدورنا بمنحهم القوة».


الدراسات الحديثة تشير إلى أن نمط الحياة الذي نعيشه، وبخاصة في المدن الكبيرة والمزدحمة، له الدور الأكبر في تعزيز شعورنا بالعزلة والخواء. فالمدن الكبيرة، وعلى الرغم من امتلائها بالبشر، إلا أن من مظاهرها عدم الانسجام بين ساكنيها، ومن ثم فإنها تورث سكانها الشعور بالعزلة والخواء الروحي والنفسي.


هناك فجوات في النفس لا يملؤها إلا الشعور بالتشارك الوجداني، ولا يتعزز هذا التشارك إلا من خلال المقدرة على التواصل مع الآخرين بالشكل الذي يتيح للذات النمو الإيجابي ويشعرنا بالمساندة والتوازن، وهذا بدوره لا يتحقق إلا من خلال تخلي النفس عن التمركز حول ذاتها والعمل على خدمة الجماعة بنفس القدر الذي نعمل به من أجل أنفسنا.


http://www.albayan.ae/servlet/Satellite?cid=1121433337457&pagename=Albayan%2FArticle%2FFullDetail&c=Article


جامعة الإمارات