المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : آباؤنا في البيوت


أفاق الفكر
03-06-2006, 10:26 PM
آباؤنا في البيوت


من مشاكل الأسرة التي تؤثر في سلوكنا الاجتماعي علاقة الآباء والأمهات ، فكثيراً ما يقع الخلاف بين الولد وأبيه ، وكثيراً ما يجـر هذا الخلاف وراءه ذيولاً أخلاقية واجتماعية مؤلمة ، وقد تؤدي إلى ارتكاب جرائـم القتل والعدوان . ونستطيع أن نقسم أسباب الخلاف إلى سببين رئيسين :

سبب معقول : لا بد فيه من استعمال الحكمة.

وسبب غير معقول ولا مشروع : وهو ما يتسم بسمة العقوق من الولد نحو أبيه.

أما الأول : فهو ما ينشأ عن تحكم الأبوين في علاقة ولدهما بهمـا بعد الزواج أو عنده ، فهما يحرصان غالباً على زواج ولدهما بفتاة يريدانها. أو ليست له مصلحة حقيقية في الزواج منها ، بل إنهما ليرغبان في ذلك طمعاً في مال ، أو انسياقاً وراء عاطفة، أو حرصاً على صداقة أو قرابة، دون نظـر إلى مصلحة الولد الحقيقية في هذا الزواج ، وهذا خطأ فادح يجر إلى أسوأ العواقب ، وهو تحكم من الأب أو الأم لا يبرره الشرع ولا العقل ولا الحكمة، ومن الخير أن يؤخـذ في ذلك رأي الابن ويقتنع به ، لأنه هو الذي سيتزوج الفتاة ويشترك معها في السراء والضراء، فإذا لم يجد فيها سَكَنَه النفسي والروحي كان زواجه منها مبعث شقاء له ولها، وقد يتعدى ذلك إلى شقاء أسرتيهما معاً .

وحين يتزوج الولد يرغب الأبوان (غالباً) في أن يظل بجانبهما، يسكن معهما هو وزوجه وأطفاله ، فتنشأ المشاكل بين الأم والزوجة، وبين الأب والابن، وكثيراً ما تكون أسباب المشاكل التافهة ناشئة عن رغبة الأب أو الأم في فرض سلطانهما على الولد بعد زواجه، كما اعتادا ذلك أيام طفولته وعزوبته، وقد تنشأ عن غطـرسة الزوجة أو نفرتها من حماتها، أو تدخل الأبوين في العلاقة بينها وبين زوجهـا ، وفي البيئات الجاهلة أو الظالمة يحمل الأبوان ولدهما على القسوة على زوجته وتعذيبها، وأحياناً على طلاقها لأنها لا تخضع لهما أو لا تنسجم معهما، وعادة إسكان الولد مع أبويه بعد الزواج لا تزال منتشرة في القرى وفي أكثر سكان المدن، وهي عادة قديمة نرى آثارها في البيوت القديمة التي كانت تعـد لإسكان الأولاد حين زواجهم مهما كان عددهم في البيت الواحد، وكان الأب حين يريـد تزويج ابنه يكتفي بأن يفـرد له في الدار غرفة واحدة لسكنه وزوجته ، بينما يشترك مع أبويه وإخوته في غرف الأكل والجلوس والاستقبال ، وقد رأينا عدة أبنـاء يشتركون مع أبويهم في بيت واحد، ويتكاثر الأولاد في هذا البيـت حتى يشبه خلية من النحل تعج بالأطفال والنساء والرجال، ولهذه العادة محاذير متعـددة من جهة الشـرع والأخلاق والصحة النفسية والجسمية.

والآن وقد تطورت الحياة وتعددت مشكلاتها ومطالبها، وتطور بنـاء البيوت من الأسلوب الإسلامي الشرقي إلى الأسلوب الغربي الحديث، لم يعد من المستحسن أن يتمسك الأبوان بهذه العادة، ومن الخير لهما ولولديهما أن يهيئا بأنفسهما له سكناً خاصاً خارج بيتهما، لتظل علاقات الود والحب والاحترام قائمة بينهما وبين ولدهما وزوجه، فيحال دون وقوع المشكلات وتجـددها يوماً بعد يوم في البيت الواحد والعائلة الواحدة.

والقسم الثاني : من أسباب الخلاف هو ما يكون منشؤه العقوق والجحود، عقوق الولد لأبويه وجحوده لفضلهما ، ويتجلى ذلك في تأففه من أوامرهما وتكاليفهما، ومن رقابتهما لسلوكه ونصحهما له في أعماله، كما يتجلى عقوق الولد في انشغاله بنفسه وعائلته عن النظر في شؤون والديه وإعالتهما حين يحتاجان إلى إعانته وإنفاقه وقد يتطور هذا العقوق إلى الغلظة في خطابهم، والتعدي عليهما بالضرب والإهانة. وكم رأينا أبناءً مجرمين اعتدوا على حياة آبائهم وأمهاتهم بالقتل أو الضرب المبرح الذي تنشأ عنه إحدى العاهات المزمنة ‍‍‍‍.

ومن أقبح مظـاهر العقوق أن يتبرأ الولد من أبويه حين يرتفع مستواه الاجتماعي عنهما، كأن يكونا فلاحين وهو يعيش في المدن، ويتسلم بعض الوظائف الكبيرة، فيخجل من وجودهما في بيته بثياب الفلاحين أو الأزياء القديمة، وقد شاهـدنا من بعض هؤلاء العاقين المغرورين من زعم لزواره عن أبيه أنه خـادم مستأجر لشؤون البيت، لما يتوهم في لباسه وهيأته من حطَّة تـتنافى مع وظيفته أو مقامه الاجتماعي الكبير، وهذا بلا ريب دليـل على حطة نفس، وصغر عقل، وحقـارة شأن.

والنفس العظيمة تعتز بمنبـتها وأصلها ، وتفخر بأبيها وأمها، مهما كانت حياتهما ونشأتهما وبيئتهم، وحسبك أن القرآن الكـريم - مع تشديـده على الشـرك والمشركين - أوصى الولد بأن يعاشر والديه المشركين بالمعروف : ( وإنْ جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعْهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً ) . لقمان:15.
هذه هي بعض مظاهر العقوق من الولد نحو أبيه وأمه، من ثم كان العقوق قبيحاً في نظر المروءة والشريعة .

أما قبحه في نظر المروءة : فلأنه مكافأة لإحسـان الأبوين بالإسـاءة ولنعمتـهما بالكفران ، فلو استحضر الولد ما عاناه أبواه منـذ أن حملته أمه إلى أن وضعتـه وأرضعته وربته ، ومنذ أن أنفق الأب عليه جنيناً في بطن أمه حتى أصبح رجـلاً ذا زوج وأولاد ، ولو تذكر فضل أبويه وكفاحهما من أجـله في مراحل حيـاته منذ الاجتنان حتى الزواج ، لوجد أن ما يقدمه لهمـا بعد ذلك من بر وعون في حياته كلها لا يعادل فضل يوم واحد من أيام أبويه معه ، فكيف يكون من المـروءة أن يجحد فضلهما ، ويبدلهما بالإحسان إساءة وبالشكر كفراناً ؟

ولو كان فضل الأبوين قاصراً على الإنفاق المادي لهان الأمر ، ولكن فضلـهما في حياطته بالعاطفة والحب والرعاية والسهر هو أقوى وأشد تأثيراً في حياته وهو طفل صغير ، إن الطفل يعيش بعاطفة أبويه وحنانهـما أكثر مما يعيش بمالهمـا ، ويا الله للأبوين ، ما أكبر قلبيهما ، وأنبل عاطفتيهما ، حين يسهـران الليل كله لطفلهما الوليد الذي يصرخ ويبـكي ، فلا يذوق الأبوان طعم المنـام ولا برد الاستقرار ، يكبان عليه ساهرين جزعين وجلين على حياته وصحته ، حتى ليتمنيَّان أن يفديـاه بحياتيهما ، فإذا بزغ الفجـر وهدأ الألم وعاودت الطفل ابتسامته ، نسيـا سهرهما وآلامهما وأكبّا عليه يقبـلانه ويضمانه ؟! إن ليـلة واحدة من هذه الليالي - وما أكثرها في حياة الطفل - في آلامها وأحزانها وتعبها وسهرها ، لتعـدل مال الدنيا يصبه الولد حين يكبر بين قدميهما، ثم لا يكفي ذلك في جزائهما ولا شكرانهما.
فما يطيق الولد - مهما كان براً وفياً - بعض ما كان يطيق الأب من عذاب وآلام ولده الصغير حين كانت تنتابه الأوجاع والأسقام .

أفليس قبيـحاً إذن في عرف المروءة والأخـلاق أن يقف الولد من أبويه في كبره موقف الجحود ، وهو المدين لهما في حياته منذ ولادته وطفولته ؟
ومن هنا كان حقاً ما تقرره الشريعة من أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وأشد الذنوب بعد الشـرك بالله عز وجل : ( وإذ قال لقمان لابنـه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم . ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنـًا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير ) .لقمان: 13-14.

فانظر كيف قرن النهي عن الشرك بالله مع الوصـية بالوالدين ووجوب الشـكر لهما في آية واحدة ونسق واحد.
ويقول صلى الله علي وسلم : [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الشرك بالله وعقـوق الوالدين ] . رواه البخاري ومسلم.
فلا يُقدم على عقوق الوالدين إلا فاقد المروءة سييء الخلق قليل الدين ، ومن كان كذلك مع أوثق الناس به وأكثرهم تفضلاً عليه ، كان مع الناس أدنى مروءة وأسوأ خلقاً وأقل ديناً .

وقد يبرر بعض الأولاد عقوقـهم لآبائهم وأمهاتهم بقسوة هؤلاء الآباء والأمهات وظلمهم له وتعديهم عليه ، وأنا لا أنكر أن بعض الآباء يفعلون ذلك ، وأن بعضهم يشتد في القسوة والتأديب حتى ليضرب ولده فيكسر له يداً أو يقصـم له ظهراً ، وهي قسوة جاهلة ظالمة بلا شك ، لكنها لا تبرر العقوق بحـال ، فالولد كثيراً ما يخطئ في الحكم على الأب والأم بالقسوة والظلم ، وكثيراً ما تخفي عليه الحكمة ، لصغره وطفولته من قسوة أبويه وشدتهما عليه في التأديب ، وكثيراً ما يكون ذلك بدافع الشفقة والرحمة من دون أن يـرى الولد أن في ذلك شفقة أو رحمة. ولقـد مررنا كلنا بهذا الدور وبهذه الحالة ، فكم كـنا نبكي من قسوة آبائنا علينا ، ومن حرماننا من بعض ما نشتهي ، ومن منعنا بعض ما نريد أن نفعل ؟ وكنـا نتهمهم يومئذٍ بالظلم والقسوة ، ثم ما نلبث حين نعي الحياة ونفهمها أن نتبين فضلهما علينا في ذلك المنع والحرمان ، وما أصدق الشاعر حين يقول:

فَقَسَا ليزدجروا ومن يك حازماً فَليقسُ أحياناً على من يرحم
وهب أباك ظالماً فيما صنع بك، ألا تغتفر له ذلك لقاء ما سبق له من فضل عليك يوم كنت رضيعاً ، ووليداً، وطفلاً صغيراً، لا تجد في الكون من يحنو عليك غيره وينفق عليك سواه ؟

أيها الإخوة من أبناء وبنات .. لا تنسوا فضل آبائكم وأمهاتكم عليكم، وإن غاب عنكم الآن مشهدهم ، فأنظروا إلى صنيعهم بإخوانكم الصغار، انظروا إلى أمهاتكم حين يلدن أخواتكم كم يتألمن وكم يصرخن ، ثم نظروا إليهن بعد ذلك كم يسهرن وكم يأرقن وكم يجزعن. وانظروا إلى آبائكم كيف يكدحون في الحياة ويتعبون من أجل تربية إخوتكم الصغار وتعليمهم وتطبيـبهم ، وكونوا على ثقة أن الحياة جزاء ومكافأة ، فمن أحسن منكم إلى أبويه وبرهما وحَنَا عليهما، رزقه الله أولاداً يحنون عليه ويبرونه ويحسنون إليه ، ومن عقَّ منكم أبويه عوقب بأولاد يعقـونه وينكرونه ويسيؤون إليه، وقد قال رسول اللله صلى الله عليه وسلم : [ بروا آباءكم تبركم أبناؤكم ]. رواه الحاكم والطبراني.

وهذه التجربة رأيناها بأعيننا في كثير من الآباء والأمهات، فانظروا كيف تريدون أن تكونوا حين تكبرون وتحتاجون إلى عون الولد ونصرته وبره ومساعدته ، ولست أجد في تذكيركم بحق الأبوة والأمومة أبلغ ولا أروع من هذه الآيات الكـريمة من كتاب الله العظيم ، فاستمعوا إليها واعملوا بها : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ً، إمّا يبلَغنَّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيراً ) . الإسراء: 23-24

د/مصطفي السباعي

الشبكة الإسلامية

http://www.osrty.com/main/?c=64&a=2242