المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : براءة الحب


ابراهيم تايحي
07-01-2012, 04:24 AM
بــــراءة الحب
فاجأتني بقولها: أتتخلى عني لأنني فقيرة ؟ يتيمة؟ .. وأنا التي كنت لك حزاما أشد وأسند ظهرك أنا التي بعت سنين من عمري دون مقابل لأجلك . أنا التي ضحيت – وأنت أول من علم ويعلم -بالكثير الكثير بطلب منك...... أشكرك ...أشكرك لكني لن أسامحك ..لن أسامحك أبدا أبدا .حسبي الله ونعم الوكيل.
جمدت الكلمات في فمي وتحجرت , ما هذا الذي قالت ؟ والذي وقع على رأسي كصاعقة , لم تترك لي فرصة استوضح ...استفهم .. نعم تسمرت في مكاني ..أكاد لا أصدق ما قالت أو لعلني كان يتهيأ لي ذلك .. لا ..لا إنه مجرد وسواس ..لكن هي قالت أنا الآن متأكد من هذا , ما دهاها ما دعاها ؟ يا الله ..يا إلهي .. للتو قالت , وماذا تعني بقولها : أتتخلى عني ؟
أمواج عاتية تقاذفتني ورمت بي في ظلام دامس ... هل حقا ما تعني ؟ هل أحرجتها في موقف أو جرحتها في عرض ؟ ما وراء كلامها ؟ لكن لعل ما قامت به هو بإيعاز من إحداهن حسدا وضغينة ..أكيد أكيد ما أكثر الفتن في هذا الزمن ؟ يا رب أين هي الآن لأقسم لها أني ما قلت شيئا .. ولا يمكن حتى أن أفكر في شيئ من هذا القبيل لأني أحبها ..أحبها . .أحبها ...
واحد وعشرون يوما مرت من عمر تلك الحادثة وبلال طريح الفراش بالمستشفى في غرفة العناية المركزة , فاقد الوعي أحيانا الا من شهيق وزفير محتشمين وعينين ذابلتين بالكاد ما يفتحهما ولسان إذا فك عنه لا ينطق الا باسمها هي .. هي فقط وحدها هاجر .. هاجر حبيبتي
وفي يوم التاسع والعشرين من شهر رجب وبعد ما تعافى ونجا من العقبة ووضع في غرفة خاصة بالمستشفى كانت امرأة متحجبة يبدو أنها في العقد الثالث من العمر تجلس قرب سريره
ولا أحد منا يعلم من هي؟ من تكون ؟ , ما علاقتها ببلال ...كانت قربه تحمل منديلا أبيضا
بيدها المخبأة في قفاز أسود تمسح من على وجهه آثار دموع وبيدها الأخرى تطعمه , وبلسانها تجاذبه أطراف الحديث , فجأة لم يبدو لها خيال وكأن الأرض ابتلعتها .
تكرر المشهد لعدة مرات وأيام , نفس الشخص , وفي نفس الوقت , وحين تعافى بلال وتماثل للشفاء تماما سألناه عن تلك المرأة رد علينا بسؤال مماثل من هي ؟ لا أدري , لكني لا أخفيكم أني أحس وكأنها قريبة مني جدا , أسعد بوجودها , وطيب حديثها وأدبها ولطفها , لكن من هي؟
من هي؟ لا أحد يعلم عنها شيئا .
وقرر الطبيب إنهاء فترة مكوثه حيث الدواعي قد زالت تماما ... عاد إلى البيت لكن قبل أن يمد يده ليطرق الباب طرق سمعه صوت من خلفه : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته يا بلال حمدا لله على عودتك سالما غانما لبيتك
التفت خلفه وكأن فتوة الشباب قد بعثت فيه مع أنه لا زال لم يجتاز الأربعين من العمر
صوت ليس بغريب عنه , صوت ألفه وأحبه, صوت طالما سهر الليالي وسامر الكوابيس يحكي مآسيه منذ تركته اعتقادا منها أنه ضل السبيل ...
إنها حبيبته وقلبه ..كبده وفؤاده. إنها نفسها التي كانت تزوره بالمستشفى وتقطع أحبال الصمت الرهيب والكلل والملل وتمسح عباراته وعرقه وتطعمه وهي في زيها النكرة للآخرين المعرفة
لقلبه وقلبها , إنها براءة الحب , إنها هاجر
عادت إليه بعدما نزغها الشيطان, فكفرت عن خطئها بما فعلت معه وهي متنكرة
علمت أنها السبب في حدوث الحادث الذي أدى به إلى المستشفى وكاد أن يرديه لحدا أو إعاقة مستديمة .
لكن الفرحة لم تتم .. فوق رأسها المسكينة سقط حوض أزهار من عل , أدخلت سريعا للمستشفى, ولعب القدر لعبته مرة أخرى. في نفس الغرفة للعناية المركزة التي كان بلال فيها
نفس المستشفى ...حبيبتي ما أشقاني ..ما أتعسني من رجل ..أنا السبب .. أنا السبب , وتحرك شفتيها والحب يتناثر منهما كلؤلؤ ومرجان , وبسمة الدفء والحنان تسبقهما , ونظرات حبلى بالمعاني معاني الوفاء والود وخالص الغرام .. لا يا بلال لست أنت السبب بل أنا , وقد أخذت جزائي .. أدعو الله لي بالمغفرة عما اقترفت في حقك أيها الحبيب المحب .
تناول يدها مقبلا وأنهار من الدموع تسقي راحتيهما , وراح يقول : هاجر حبيبتي أنا لا ولن أتخلى عنك مطلقا فأنت التي علمتيني الحب والوفاء والعفة والنبل والكرامة , أنت التي غرست في جذور الصدق والطهارة , أنت التي أنتشلتيني حين كنت غرقا في أوحال ......
روحي فداك يا حبيبتي .كل هذا النغم الوجداني كان يدور وأهله وأهلها متحلقين مبتسمين لكن بعيون حمراء من شدة البكاء , وتبادل المصافحة والمصالحة الجميع وعادت النظرات تحمل أسمى معاني البراءة بعدا ما عششت سنين في أنفسهم بفعل كيد الكائدين وحقد الحاقدين
وجاءت ساعة المخاض الكل في حركات لولبية في أروقة المستشفى حيث هاجر تحت الأشعة
وقد أثيرت حول صحتها أقوال وأقوال .خرج الطبيب المعالج فنهض الجميع وهم في حالة ترقب ووجل , الجميع تحلق حول الطبيب , أفواه فاغرة , عيون شاخصة زائغة, أعناق مشرئبة
وجوه مصفرة .... وتنفس صدر الطبيب بشرى وطمأنينة ..هاجر بخير والحمد لله .
ابراهيم تايحي